العرب وتحديات الذكاء الاصطناعي

التَّضْليلُ الإِعْلامِيُّ لِلْمِنَصّاتِ الاجْتِماعِيَّة! دراسَةٌ أوروبِيَّةٌ جَديدَة: ماذا يَعْني ذَلِكَ عَرَبِيًّا؟

يَشْهَدُ العالَمُ مَوْجَةً غَيْرَ مَسْبوقَةٍ مِنَ التَّضْليلِ الإِعْلاميِّ في ظِلِّ انْتِشارٍ كَبيرٍ لاسْتِخْدامِ مِنَصّاتِ التَّواصُلِ الاجْتِماعِيّ. وَمَعَ تَراجُعِ الْتِزاماتِ عَديدِ المِنَصّاتِ الكُبْرى في مُكافَحَةِ الأَخْبارِ الكاذِبَةِ مُنْذُ عامِ 2025 - سَواءٌ عَبْرَ تَقْليصِ فِرَقِ التَّحَقُّق، أَوْ الحَدِّ مِنَ التَّعاوُنِ مَعَ جِهاتِ التَّدْقيق، أَوْ تَعْديلِ سِياساتِ الإِشْراف - أَصْبَحَتِ الحاجَةُ إلى قِياسٍ عِلْميٍّ دَقيقٍ لِحَجْمِ التَّضْليلِ وَطَبيعَتِه، مَسْأَلَةً مَرْكَزِيَّة.

التَّضْليلُ الإِعْلامِيُّ لِلْمِنَصّاتِ الاجْتِماعِيَّة! 
دراسَةٌ أوروبِيَّةٌ جَديدَة: ماذا يَعْني ذَلِكَ عَرَبِيًّا؟

في هَذا السِّياقِ، قَدَّمَ مَشْروعُ "SIMODS" الذي تَقودُهُ مُنَظَّمَةُ "Science Feedback" أَوَّلَ دِراسَةٍ واسِعَةِ النِّطاقِ لِقِياسِ المُؤَشِّراتِ الهَيْكَلِيَّةِ لِلتَّضْليلِ عَبْرَ المِنَصَّاتِ الرَّقْمِيَّةِ الضَّخْمَةِ جِدًّا (VLOPs) في أوروبا، ما يُوَفِّرُ قاعِدَةً مَعْرِفيةً نادِرَةً لِفَهْمِ هَذِهِ الظّاهِرَةِ بِأَبْعادِها الرَّقْمِيَّةِ وَالسِّياسِيَّةِ وَالاقْتِصَادِيَّة. وَهِيَ فُرْصَةٌ لِلْوُقوفِ على التَّحَدِّياتِ التي يَطْرَحُها التَّضْليلُ الإِعْلامِيُّ في الفَضاءِ العَرَبِيّ.

تَعْتَمِدُ الدِّراسَةُ على مَنْهَجِيَّةٍ عِلْمِيَّةٍ دَقيقَةٍ تَجْمَعُ بَيْنَ التَّحْليلِ الكَمّيِّ وَالنَّوْعيِّ لِلْمُحْتَوى، إذْ شَمَلَتْ سِتَّ مِنَصّاتٍ رَقْمِيَّةٍ كُبْرى: "فِيْسْبوك"، "إنْسْتَغْرام"، "لينْكد إنْ"، "تيك توك"، "إكْس" (تْويتِر سابِقًا)، وَ"يوتْيوب"، وَغَطَّتْ أَرْبَعَ دُوَلٍ أوروبِيَّةٍ كُبْرى (فَرَنْسا، بولَنْدا، سْلوفاكْيا، إسْبانْيا). وَقَدْ جَمَعَتْ أَكْثَرَ مِنْ 2.6 مِلْيونِ مَنْشورٍ بَلَغَ مَجْموعُ مُشاهَداتِها 24 مِلْيارَ مُشاهَدَة، ثُمَّ جَرى اخْتِيارُ عَيِّنَةٍ مُرَجَّحَةٍ تَضُمُّ 500 مَنْشورٍ لِكُلِّ مِنَصَّةٍ وَبَلَدٍ لِتَحْليلِها مِنْ قِبَلِ مُدَقِّقي حَقائِقَ مُحْتَرِفين. وَتَرَكَّزَتِ المَوْضوعاتُ على مِلَفّاتٍ حَسّاسَةٍ تَرْتَفِعُ فيها مُعَدَّلاتُ التَّضْليلِ مِثْلَ الحَرْبِ الرّوسِيَّةِ ـ الأوكْرانِيَّة، وَالصِّحَّة، وَالهِجْرَة، وَالمُناخ، وَالسِّياسَةِ الوَطَنِيَّة. كَما جَرى تَصْنيفُ المُحْتَوى وِفْقَ سِتِّ فِئاتٍ دَقيقَةٍ تَشْمَلُ المُحْتَوى المَوْثوق، وَالمُضَلَّل، وَالسَّرْدِيَّ المُتَطَرِّف، وَالمُسيء، وَغَيْرَ القابِلِ لِلتَّحَقُّق، وَغَيْرَ ذي الصِّلَة، ما يُتيحُ فَهْمَ السِّياقِ الكامِلِ لِلْبيئَةِ المَعْلوماتِيَّةِ التي يُواجِهُها المُسْتَخْدِم.

نسبة كبيرة من الحسابات المؤثّرة ضمن قائمة أعلى 50 حسابًا على المنصّات ليست عالية المصداقية

تَكْشِفُ نَتائِجُ الدِّراسَةِ أَنَّ التَّضْليلَ لَيْسَ ظاهِرَةً هامِشِيَّةً كَما يُرَوَّجُ أَحْيانًا، بَلْ يُشَكِّلُ جُزْءًا مُعْتَبَرًا مِنَ المُحْتَوى المُتَداوَل. فَقَدْ ظَهَرَ أَنَّ مِنَصَّةَ "تيك توك" تَتَصَدَّرُ نِسْبَةَ انْتِشارِ المَعْلوماتِ المُضَلَّلَةِ بِنَحْوِ 20% مِنَ المَنْشوراتِ المُرْتَبِطَةِ بِالمَواضيعِ المَدْروسَة، يَليها "فِيْسْبوك" بِنِسْبَةِ 13% ثُمَّ "إِكْس" بِنِسْبَةِ 11%. أَمّا "يوتْيوب" وَ"إنْسْتَغْرام" فَيَدورانِ حَوْلَ 8%، بَيْنَما تَبْقَى مِنَصَّةُ "لينْكد إنْ" الأَقَلَّ تَأَثُّرًا بِنِسْبَةٍ لا تَتَجاوَزُ 2%.

وَعِنْدَ تَوْسيعِ نِطاقِ التَّحْليلِ ليشْمَلَ المُحْتَوى الحَدِّيَّ وَالمُسيءَ إلى جانِبِ المُضَلِّلِ، تَرْتَفِعُ نِسْبَةُ المُحْتَوى "الإشْكاليِّ" إلى مُسْتَوَياتٍ لافِتَة: 34% على "تيك توك"، وَ32% على "إِكْس"، وَ27% على "فِيْسْبوك"، وَهِيَ أَرْقامٌ تَكْشِفُ عَنْ بُنْيَةٍ مَعْلوماتِيَّةٍ قَدْ تَقودُ إلى تَشْويهِ النِّقاشِ العامِّ وَإغْراقِهِ في الضَّجيجِ بَدَلَ المَعْرِفَة.

وَتَزْدادُ خُطورَةُ الظّاهِرَةِ حينَ نُلاحِظُ أَنَّ نِسْبَةً كَبيرَةً مِنَ الحِساباتِ المُؤَثِّرَةِ ضِمْنَ قائِمَةِ أَعْلى 50 حِسابًا على المِنَصّاتِ لَيْسَتْ عالِيَةَ المِصْداقِيَّة. فَفي "إكْس" مَثَلًا، تَصِلُ نِسْبَةُ الحِساباتِ مُنْخَفِضَةِ المِصْداقِيَّةِ إلى 34% مِنْ قائِمَةِ ""Top 50، وَتَصِلُ إلى 29% على "تيك توك"، وَ20% على "فِيْسْبوك" وَ"يوتْيوب"، بَيْنَما يَنْخَفِضُ هَذا الرَّقْمُ إلى 2% فَقَطْ على "لينْكد ان".

محدودية مؤسسات التحقق المستقلة يفتح الباب واسعًا أمام حملات تأثير سياسية واقتصادية وإيديولوجية عبر الحدود

أَمّا على مستوى الجانِبِ الاقْتِصادِيّ، فَيَكْشِفُ التَّقْريرُ فَشَلَ المِنَصّاتِ في الحَدِّ مِنْ تَحْقيقِ الرِّبْحِ عَبْرَ المُحْتَوى المُضَلَّل، إِذْ تُظْهِرُ بَياناتُ "يوتْيوب" أَنَّ 76% مِنَ القَنَواتِ مُنْخَفِضَةِ المِصْداقِيَّةِ المُؤَهَّلَةِ تُحَقِّقُ الرِّبْحَ مِنَ الإِعْلانات، وَهُوَ رَقْمٌ قَريبٌ جِدًّا مِنَ القَنَواتِ المَوْثوقَة. وَعلى "فِيْسْبوك"، تَصِلُ نِسْبَةُ الصَّفَحاتِ مُنْخَفِضَةِ المِصْداقِيَّةِ المُؤَهَّلَةِ لِلرِّبْحِ إلى 20%، في حينِ تَسْمَحُ "غوغِل" لإِعْلاناتِها بِالظُّهورِ على ما يُقارِبُ 27% مِنَ المَواقِعِ مُنْخَفِضَةِ المِصْداقِيَّة. وَبِذَلِكَ، يَبْدو التَّضْليلُ الرَّقْمِيُّ لَيْسَ ظاهِرَةً مَعْرِفِيَّةً أَوْ سِياسِيَّةً وَحَسْب، بَلْ إِنَّهُ اقْتِصادٌ قائِمٌ بِذاتِهِ يَسْتَفيدُ مِنْ ثَغَراتِ النِّظامِ الإِعْلانيِّ العالَمِيّ.

عِنْدَما نَنْقُلُ دَلالاتِ هَذِهِ النَّتائِجِ إلى العالَمِ العَرَبيّ، تَتَّضِحُ هَشاشَةٌ أَكْبَرُ في البيئَةِ المَعْلوماتِيَّة، حَيْثُ تَفْتَقِرُ المِنْطَقَةُ العَرَبِيَّةُ إلى إِطارٍ تَنْظيميٍّ مُشابِهٍ لِقانونِ الخَدَماتِ الرَّقْمِيَّةِ الأوروبيّ، وَهُوَ القانونُ ذاتُهُ الذي يُلْزِمُ المِنَصّاتِ بِالشَّفافِيَّة، وَبِإِجْراءاتِ الحَدِّ مِنَ التَّضْليل، وَبِالتَّعاوُنِ مَعَ مُدَقِّقي الحَقائِق، وَبِإِتاحَةِ البَياناتِ لِلْباحِثِين. كَما أَنَّ اللُّغَةَ العَرَبِيَّةَ تَحْتَلُّ مَرْتَبَةً مُتَأَخِّرَةً في أَوْلَوِيّاتِ المِنَصّاتِ مِنْ حَيْثُ تَطْويرِ خَوارِزْمِيّاتِ التَّحَقُّق، وَالإِشْرافِ الآليّ، وَتَوْظيفِ فِرَقِ تَحَقُّقٍ مُتَخَصِّصَة، وَهُوَ ما يَجْعَلُ المُحْتَوى العَرَبِيَّ أَكْثَرَ عُرْضَةً لِلتَّضْليلِ مُقارَنَةً بِاللُّغاتِ الأوروبِيَّة.

يُضافُ إلى ذَلِكَ طَبيعَةُ الخِطابِ العَرَبيِّ السّائِدِ في الوَسائِطِ الاجْتِماعِيَّةِ الذي يَتَّسِمُ بِدَرَجَةٍ عالِيَّةٍ مِنَ العاطِفَة، وَاعْتِمادِهِ الكَبيرِ على الرُّموزِ الدّينِيَّةِ وَالهُوِيّاتِيَّة، وَهِيَ عَناصِرُ تَزيدُ مِنْ قابِلِيَّةِ المُسْتَخْدِمِ العَرَبيِّ لِلتَّأَثُّرِ بِالسَّرْدِيّاتِ المُثيرَةِ التي تُكافِئُها الخَوارِزْمِيّاتُ تِلْقائِيًا. أَمّا المَشْهَدُ الإِعْلامِيُّ وَالمُجْتَمَعِيُّ العَرَبِيّ، فَهُوَ يُعاني مِنْ ضَعْفٍ مُؤَسَّساتيٍّ يَجْعَلُ مُؤَسَّساتِ التَّحَقُّقِ المُسْتَقِلَّةَ مَحْدودَة، ما يَفْتَحُ البابَ واسِعًا أَمامَ حَمَلاتِ تَأْثيرٍ سِياسِيَّةٍ وَاقْتِصادِيَّةٍ وَإيدْيولوجِيَّةٍ عَبْرَ الحُدود.

بناء نموذج عربي لمواجهة التضليل ضرورة استراتيجية لحماية الفضاء العربي العام

في ضَوْءِ هَذِهِ المُعْطَياتِ، تُصْبِحُ الحاجَةُ مُلِحَّةً لِوَضْعِ إِطارٍ عَرَبيٍّ مُوَحَّدٍ لِتَنْظيمِ عَمَلِ المِنَصّاتِ الرَّقْمِيَّة، على غِرارِ النَّموذَجِ الأوروبيّ، يَتَضَمَّنُ مَعاييرَ لِلشَّفافِيَّة، وَتَنْظيمَ الإِعْلاناتِ الرَّقْمِيَّة، وَمُراقَبَةَ الحِساباتِ المُضَلَّلَة، وَتَوْفيرَ بَياناتٍ مَفْتوحَةٍ لِلْباحِثين. كَما يُصْبِحُ مِنَ الضَّروريِّ تَأْسيسُ مَرْصَدٍ عَرَبيٍّ لِلتَّضْليلِ الإِعْلاميِّ يَجْمَعُ بَيْنَ الجامِعاتِ وَالصِّحافَةِ وَخُبَراءِ البَياناتِ وَمُنَظَّماتِ المُجْتَمَعِ المَدَنيِّ لإِنْتاجِ تَقاريرَ مُسْتَقِلَّةٍ وَدَوْرِيَّةٍ حَوْلَ حالَةِ التَّضْليلِ في المِنْطَقَة. وَلا يَقِلُّ أَهَمِّيَّةً عَنْ ذَلِكَ إِدْراجُ التَّرْبِيَةِ الإِعْلامِيَّةِ في المَناهِجِ الدِّراسِيَّةِ لِتَعْزيزِ مَهاراتِ التَّفْكيرِ النَّقْديِّ وَالتَّحَقُّق، بِالإِضافَةِ إلى دَعْمِ تَطْويرِ أَدَواتِ الذَّكاءِ الاصْطِناعِيِّ العَرَبِيَّةِ لِلْكَشْفِ عَنِ الحِساباتِ الوَهْمِيَّةِ وَالمُحْتَوى المُضَلَّلِ في الزَّمَنِ الحَقيقِيّ.

إِنَّ قِراءَةَ نَتائِجِ الدِّراسَةِ الأوروبِيَّةِ مِنْ مَنْظورٍ عَرَبيٍّ تَكْشِفُ أَنَّ التَّضْليلَ لَيْسَ مُجَرَّدَ ظاهِرَةٍ رَقْمِيَّةٍ، بَلْ هُوَ تَحَدٍّ سِياسِيٌّ وَثَقافِيٌّ وَاقْتِصادِيٌّ يُشَكِّلُ اخْتِبارًا حَقيقِيًّا لِقُدْرَةِ المُجْتَمَعاتِ العَرَبِيَّةِ على حِمايَةِ نِقاشِها العامِّ مِنَ التَّشْوِيه. وَفي غِيابِ تَشْريعاتٍ ناظِمَة، وَتَرْبِيَةٍ إِعْلامِيَّة، وَبُنْيَةِ تَحَقُّقٍ مُسْتَقِلَّة، سَيَظَلُّ الفَضاءُ الرَّقْمِيُّ العَرَبِيُّ أَكْثَرَ عُرْضَةً لاخْتِراقِ السَّرْدِيّاتِ المُضَلَّلَةِ وَإِعادَةِ إِنْتاجِها. وَلِذَلِكَ، فَإِنَّ بِناءَ نَموذَجٍ عَرَبيٍّ لِمُواجَهَةِ التَّضْليلِ لَيْسَ تَرَفًا مَعْرِفِيًّا، بَلْ ضَرورَةٌ اسْتْراتيجِيَّةٌ لِحِمايَةِ الفَضاءِ العَرَبيِّ العامِّ وَصَوْنِ جَوْدَةِ المَعْلومَةِ في عَصْرٍ تَتَعاظَمُ فيهِ قُدْرَةُ التِّكْنولوجْيا على إِعادَةِ تَشْكيلِ وَعْيِنا الجَماعيِّ بِأَنْفُسِنا وَبِالعالَمِ مِنْ حَوْلِنا!.

(خاص "عروبة 22")

يتم التصفح الآن