أصل الحكاية، قديم. بدأ حين سارت غالبية الحكومات العربية عن قصدٍ أو غير قصد، نحو إهمال وتهميش التعليم الرسمي (الحكومي) لصالح التعليم الخاص ومؤسساته، فحصل الفصل بين تعليم عامة الشعب من جهة، والنخبة الاجتماعيّة من جهة أخرى، وظهرت الصراعات الطبقيّة داخل المجتمع، كون المؤسسات التعليمية لا يمكن عزلها عن السياسة والثقافة والاقتصاد في أيّ مجتمع.
هكذا وبمجرد تخلّي الدولة عن دورها في بناء وإدارة وتطوير هذا القطاع، تحت حُجج واهية، مثل إفتِقارها للأموال والميزانيات (علمًا أنها تسخّى في الإنفاق على تمويل مشاريع بلا جدوى اقتصادية أو مجتمعية) تمّ "تسليع" التعليم فنمّت مدارس خاصة أجنبية ومحلية، بتسمياتٍ ومستوياتٍ مختلفة، بعدما تراجعت المنظومة التعليمية الوطنية.
وأنتج هذا التخلّي الرسمي تمييزات طبقية فاقعة وفروقات مجتمعية شاسعة، اتّضحت معالمها، بمجرد الحديث عن مدارس تخصّ الأغنياء وأخرى تخصّ الطبقات الأخرى ومن بينها المعدومة... فأصبحنا أمام "منطق" يرسّخ التباين في المستويات التعليمية، على أساس التمييز بين أبناء من يملكون المال ومن لا يملكونه.
التعليم الخاص في المجتمعات المتقدّمة ملاذ بديل للطلّاب الراسبين في التعليم الرسمي
وإلى افتقار عالمنا العربي إلى ركائز مناهج التعليم المعتمدة في الدول المتقدمة، التي تولي أولوية قصوى في مراحل التعليم الأساسي لزرع مبادئ "الاستقامة" و"الوطنية" و"الأخلاق" و"حب العمل" في البنية الذهنية للأجيال الصاعدة، فضلاً عن الحاجة العربية المُلحّة إلى تكريس مفهوم "إدخال العلم إلى الثقافة" تعظيمًا لأهداف التنمية البشرية والاقتصادية والاجتماعية، وإعادة تشكيل الوعي المجتمعي المتّصل بالممارسة الديمقراطية، (راجع تقرير: التعليم والديمقراطية... وضرورة "إدخال العلم إلى الثقافة")، فإنّ ما يجري راهنًا في الوطن العربي يعاكس كل هذه الاتجاهات ويعّمق الهوة أكثر فأكثر بين المناهج التعليمية وبين حاجات سوق العمل الوظيفية والمهنية بما يتلاقى ويتقاطع مع أهداف الخطط المستقبلية للدولة، تلافيًا للاستمرار في تضييع الوقت والفرص جرّاء الإصرار على تدريس أبنائنا تخصّصات بات عدد متخرّجيها يفوق حاجات السوق إليها، أو حتى تخصّصات اختفت أو على وشك الاختفاء من أسواق العمل في عصر التطوّر التكنولوجي وزمن الذكاء الاصطناعي (راجع تقرير: وظائف تظهر وأخرى تندثر.. هل تتطابق مناهجنا التعليمية مع سوق العمل؟)
وهنا يكمن جوهر ما يفتقد إليه واقع التعليم العربي، لناحية الخلل الحاصل في مقاربة الشأن التعليمي على أساس مبدأ "دمقرطة التعليم" بوصفه خشبة الخلاص المنشود لجعل "الحقّ المقدّس" في التعليم في متناول جميع الفئات والطبقات بمعزل عن المستويات المجتمعية، وهو ما ينطبق فعليًا على مفهوم التعليم الرسمي المجاني ويتمّ تطبيقه عمليًا في المجتمعات المتقدّمة حيث يُعتبر التعليم الرسمي حاضنة للطلاب الأذكياء والمتفوّقين الراغبين بالتعلّم، بما يُحتّم على الدولة تحمّل تكاليف تعليمهم، بينما يكون التعليم الخاص في المقابل ملاذًا بديلًا للطلّاب الراسبين في التعليم الرسمي الذين لا تتوافر فيهم هذه الصفات، ما يحتّم تاليًا على أهاليهم تعليمهم في المدارس الخاصة وتحمّل الأعباء المالية الناتجة عن ذلك.
ضغوط من المؤسسات المالية العالمية على الدول العربية لخفض ميزانيات القطاعات الاجتماعية كالتعليم والصحة
أما في عالمنا العربي، فالوضع التعليمي على النقيض من ذلك، بحيث تبدأ الفروقات الطبقية من غياب الاستراتيجيات الإبداعية المتطوّرة في المناهج الرسمية المتخلّفة عن مواكبة متطلبات العصر والحداثة، مرورًا بواقع الهيئة التعليمية الرسمية التي تتقاضى رواتب متدنية قياسًا على رواتب القطاع الخاص، وصولًا إلى المشاكل التي ظهرت بوضوح في أساليب التدريس وقت الأزمات، والتي عمّقت الهوة بشكل أكبر بين القطاعين الخاص والرسمي في دول العالم الثالث، وخير دليل على ذلك، ما حصل أثناء انتشار جائحة "كورونا"، حين تمكّن طلاب المؤسسات الخاصة، من متابعة تعليمهم عن بُعد، فيما تعذر على طلاب المؤسسات الرسمية مجاراة أقرانهم في التعليم الخاص، بسبب عدم حيازتهم أجهزة كمبيوتر، أو حتى لافتقارهم إلى الإنترنت وغيرها من الأمور اللوجستية البديهية التي يحتاجها المُتعلّم عن بُعد. وهكذا ترسّخت الطبقية فى التعليم المدرسي والجامعي، بين غنيّ وفقير، وطبقات غير متساوية داخل جدران المجتمع الواحد، بخلاف المطلوب من "دمقرطة التعليم" وتوظيفه فى خدمة كافة أبناء المجتمع.
ولعلّ ما يختصر تحديات الوضع التعليمي، أو بالأحرى يضع الإصبع على الجرح التربوي النازف منذ عقود في وطننا العربي، هو ما أورده الأكاديمي والكاتب المغربي عبد العلي الودغيري في مؤلّفه "العربية أداةً للوحدة والتنمية وتوطين المعرفة"، مسلّطًا الضوء، في سياق مقاربته ملف التعليم "بشروط العولمة"، على ما وصفها "العقبات الحقيقية التي حالت دون تعميم التعليم والقضاء على الأمّية في عدد من بلدان العالم العربي والإسلامي"، وأبرزها "عقبة الضغوط التي تمارسها المؤسسات المالية العالمية الخاضعة للدول المهيمنة (كصندوق النقد الدولي، والبنك الدولي، ومؤسسات الإقراض الدولية بصفة عامة) من أجل خفض ميزانيات القطاعات الاجتماعية وفي مقدمتها ميزانية التعليم والصحة". ليسأل ربطًا بذلك: "كيف يُمكن لـ80% من فقراء العالم أن يلِجوا عالم المعرفة في الوقت الذي يخطَّط فيه للقضاء التدريجي على مجانية التعليم (...) وتحويله إلى سلعة تجارية يتنافس على تضخيم أرباحها المستثمرون من أفراد وشركات؟ أليس معنى ذلك أنّ المعرفة أصبحت محتكَرَة لمن يدفع، وأنّ جودة التعليم لا تحصل عليها إلا فئة ضئيلة من أبناء المجتمع وهي الفئة الميسورة؟"، الأمر الذي يؤدي إلى تعميق الهوة والفوارق بين الفئات المجتمعية ويعيق مسار التنمية البشرية.
الخارج يريد إبقاء العرب "بيئة حاضنة للجهل" لكي يبقى قادرًا على الاستثمار في جهلهم
إذن هي، بالمختصر المفيد، معركة الربط بين "دمقرطة التعليم" في عالمنا العربي وتأهيل أبناء الطبقات الفقيرة للولوج إلى سوق العمل بما يقود تلقائيًا إلى شمولية النموّ الاقتصاديّ، ويعبّد الطريق أمام جَسر الهوة بين كل طبقات المجتمع، وإعادة بناء الطبقة الوسطى التي تُعتبر "صمام الأمان الاجتماعي" والعمود الفقري لنهضة أي مجتمع، عبر إنشاء كوادر متعلّمة قادرة على ملاقاة متطلبّات ومتغيّرات سوق العمل في السياق الذي يصبّ في صلب أهداف التنمية البشرية... والتحرّر تاليًا من أغلال التبعية للخارج الذي جهد واجتهد على مرّ العصور لإبقاء العرب "بيئة حاضنة للجهل" لكي يبقى قادرًا على الاستثمار في جهلهم... وفي أرضهم الخصبة بالثروات والموارد.
(خاص "عروبة22" - إعداد حنان حمدان)