تجربة الإستقلال في الهند 1947، ليست بعيدة عن مثيلاتها في العالم العربي، وهي تعُّد من الاقتصاديات الناشئة، لكنها وجدت الحلّ لمشكلاتها وتناقضاتها عبر هامش مهمّ من "الديمقراطية الديموغرافية" (نيويورك تايمز)، ومواصلة التطوّر، وعبر التعليم / مادة أساسية في دستورها، "المزاج العلمي"، ما سمح أخيرًا لوكالة الفضاء الهندية بإطلاق صاروخ لدراسة الشمس.
هي أوّل مهمّة من نوعها للوكالة في سعيها لاكتشاف الفضاء، وذلك بعد أسبوع من نجاحها في إنزال مركبة غير مأهولة عند القطب الجنوبي للقمر. تهدف عملية إطلاق المركبة إلى دراسة الطبقات الخارجية للشمس والرياح الشمسية، ومن الممكن أن تساعد البيانات الواردة من البعثة على المدى الطويل في فهم تأثير الشمس على أنماط مناخ الأرض، وأن يكون للبعثات الفضائية الهندية دور أكبر على الساحة العالمية، التي تهيمن عليها الولايات المتحدة والصين.
مزاج تعليمي هادئ، يستقبل الخبرات التخصّصية بنظرات أكاديمية غير تقليدية
ويرى خبراء أنّ الهند قادرة على إبقاء تكاليف برنامجها الفضائي منخفضة من خلال نسخ التكنولوجيا القائمة وتعديلها كما يلزم، وبفضل المهندسين الذين ينالون رواتب منخفضة مقارنة بنظرائهم من الأجانب. كرسّ هذا المزاج سياسات صارت نسيجًا اجتماعيًا وثقافيًا بين الأرياف، (برنامج الاستخدام الريفي الضخم 2005) والمدينة (في تجاوز صراعات وتصنيف ومنافسات اجتماعية وسياسية)، وفي تشكيل نواة مجتمع تنموي مختلط ينهض شموليًا في أوساط الشباب (المساواة للنساء)، عبر مكاتب المحاماة والهندسة والبرمجيات الرقميّة، والتمازج بين الرؤية المركزية والمبادرات المجتمعية والشراكات العالمية.
زميل أكاديمي زائر في إحدى الجامعات الهندية، حدّثني عن المزاج التعليمي العالي الهادئ، الذي يستقبل الخبرات التخصّصية بنظرات أكاديمية غير تقليدية، وفق قواعد علمية من طبيعة مرنة / مفتوحة، و"أرسطيّة"، تركّز أكثر على إحترام الرؤية البيئية في الحرم الجامعي، الأمن الصحي والغذائي للزائر / التنقّل بين أرجائه الواسعة مشيًا على الأقدام (احترامَا لأنماط الثقافة التقليدية)، والإلتزام ببروتوكول ترشيد استخدام المياه في أماكن السكن الجامعي كموئل سياحي أيضَا.
من الملاحظ أنّ برامج التعاون بين الجامعات الهندية ونظيراتها في المملكة المتحدة والولايات المتحدّة الأميركية تأتي ضمن المهام القصوى في البلد الآسيوي، بالتعاون المكثّف بين الجامعات ومؤسسات البحث العلميّة. تمكنت الهند من حلّ الكثير من مشكلاتها الاقتصادية والإجتماعية والبيئية، ويشار إلى موقعها الصاعد في ترتيبها بين دول آسيوية كبرى كالصين (مجموعة العشرين)، وفي حقل التجارة الدولية، لا سيما مع إنضمامها أخيرًا إلى مجموعة "البريكس".
لن يتمكّن العالم العربي من التقدّم من دون العمل على صياغة سياسات مستحدثة
الهند دولة تتميّز بتوافر العمالة والموارد الطبيعية، وتتطوّر الطاقات التنموية لديها من خلال ثلاثة أبعاد: التنافسية، المهارات المعرفية، والأطر المؤسسيّة. دولة تستحق الانتباه عربيًا لتقدميّتها في مسائل رؤيوية، شأن المملكة العربية السعودية في رؤية 2030 ودول في مجلس التعاون الخليجي، من خلال الإستعانة بالخبرات الخارجية لتعزيز المنظومة الوطنية، وتعاطف الخريجين والجامعيين في أنحاء العالم، والدعم السياسي والمحفّز لبناء شراكات عالمية فعّالة. أكدت هذه السياسات على مدى نجاحها مع انتهاج سياسات مستقلّة بين الليبرالية وضبط الدولة، وتصميم مبادرات مناسبة مع أوضاع العالم المتغيّرة، بما يعزّز حضورها العالمي، وجهودها التنموية، وتفعيل القطاعات التي تتطلّب المؤهلات العلمية وتجديد قدرات الرأسمال البشري. كأن تستقبل الهند أكبر مصنع للرقاقات الإلكترونية بعد تايوان (استثمار في البيئة المستقبلية 20 مليار دولار)، بعد عقدين من التخطيط المسبق والتزام سياسات التنمية الوطنية.
لن يتمكّن العالم العربي من إحراز تقدّم مماثل من دون العمل على صياغة سياسات مستحدثة، والمزيد من التحالفات والشراكات والنموّ الشامل لصالح العدد الأكبر والمساهمة في السجال العالمي حول اللامساواة، وتطوير النظم التعليمية، وإذا لم يتسنّ لنا مقارنة تجارب الآخرين، والإسهام في إعادة تعريف القواعد والمعايير الدولية.
(خاص "عروبة 22")