يستعصي على الفهم الطبيعي للأشياء إدراك طبيعة "الفوبيا" (= الخوف الشديد الذي يبلغ درجة المرَض النفسي)، وهو يكون في عجزٍ أشدّ عن تفسير ذلك، بالنسبة إلى أشخاصٍ يرتقي بهم تكوينهم ونفاذ نظرهم، إلى رتبة الفئة التي تُعتبر نموذجًا في سمو الفهم في المعتاد، وفي خانة الحكماء الذين يرتفعون إلى رتبة قادة الفكر وزعماء التنوير.
الإدراك الطبيعي للإنسان يعجب من ذلك الخوف ويستغرب صدور اعتقاد يتّصل بذلك الخوف عن شخصٍ قد يكون منتميًا، بحكم المهنة والتكوين العلمي الرفيع، إلى فئةٍ من الناس يُعتبر المنتسبون إليها مرجعيةً عليا في الفهم.
فئةٍ من أهلنا تتحدّث عن "الغرب" بالكيفية نفسها التي يتحدّث بها هنتغتون عن "الخطر الإسلامي"
ولعلّ أحد الشواهد الدالّة على ما نقول، ونحن في معرض التلميح إلى "الإسلاموفوبيا"، هو مثال صامويل هنتغتون (Samuel Huntington)، في تعداده لدعائم نظرية تفسير "صدام الحضارات" وفي التنبؤ بمستقبل البشرية. ونحن، إذ ننظر في النظريّة التي شغلت الناس وطبّقت الآفاق وكانت لها الهيمنة في مراكز صناعة القرار في العالم فنحن نفاجأ حقًا، كيف أنّ "فوبيا الإسلام" أمكنها أن تكون فاعلةً في فكر أستاذ العلوم السياسية الأشهر في الولايات المتحدة الأميركية، وتعمل على شلّ ملكة الفكر النقدي عنده، قبل الزجّ به في متاهاتٍ عظيمةٍ ودفعه إلى الوقوع في أخطاءٍ يُستغرب صدورها عن أشخاصٍ يُعدّون في رتبة تلامذته. من ذلك، اعتباره أنّ الغرب - مع غناه وتنوّعه المذهلَيْن ومع اختلاف صور ومكوّنات تاريخه ومكوّناته الإيديولوجية والبشرية - يرتدّ إلى كتلةٍ واحدةٍ صمّاء، لا تقبل القسمة تُدعى "الغرب" وأنّ الإسلام يقوم في وجهها خطرًا داهما.
ومن ذلك، انتهاؤه إلى القول إنّ "الإسلام اليوم، مع تعدّد شعوبه ولغات أهله وانتماءات أقوامه إلى إيديولوجيّاتٍ شتّى، لا شكّ أنّ "الغرب" أخصّها، يملك أن يملأ، في اتجاه "الغرب" الوظيفة الإيديولوجية التي كان الاتحاد السوفياتي، إلى زمنٍ قريبٍ سابقٍ على انقسامه، ينتهض لها. ونحن إذ نرجع إلى نظرية هنتغتون (وقد فعلنا ذلك في مناسبات عدّة، كما فعل آخرون غيرنا)، فإنّنا نعجب حقًّا كيف استطاع المفكر الأميركي الأشهر أن يمضيَ بعيدًا في تحليلٍ، منشؤه وقاعدته "فوبيا" لا تقبل الفهم والتفسير إلّا متى عُرضت على علم النفس المرَضي أولًا وأساسًا، ليستخلص منه نتائج غريبة حقّا. ثم كيف استطاعت النظرية أن تشغل الناس وأن تكون لها الهيمنة في مراكز اتخاذ القرار في بلاد "العمّ سام"؟ ولكن للسياسة الدولية منطقها مثلما أنّ للإيديولوجية منطقها وفعاليتها - وذينك قضيتان لا يعنينا أمرهما اليوم.
استدعيت مثال هنتنغتون عمدًا لأنّ التفكير ينصرف عندي إلى فئةٍ من أهلنا (ولست أقول مثقّفينا، وإنّما أقول نُخَبًا حاز أفرادها على رتبٍ عليا من التكوين النظري والتكنولوجي - خاصة - ورحم الله محمد عبده فقد كان يميّز بين العلماء وبين "حملة العمائم") تتحدّث عن "الغرب" بالكيفية نفسِها التي يتحدّث بها المفكر الأميركي عن "الخطر الإسلامي" وعن "الخطر الأصفر".
يشهرون الحرب في وجه إسلام قوامه تعظيم العقل
ولعلّي أكون أقلّ تلميحًا في القول متى أضفت بأنّهم، في منزع "الغربفوبيا" الذي يُبشّرون به ويجهدون أنفسهم في إقامة صروح من الحذلقة اللغوية ونحت سيلٍ من الاشتقاقات العربية التي تُبيّن فعلًا عن علوّ كعبٍ في المعرفة بلسان العرب وفي إجادة لغاتٍ عدّةٍ من لغات "الغرب" (فضلًا عن معرفةٍ بنصوص فلسفية مؤسّسة)، من دون أن يمتلكوا معشار ما يمتلكه هنتغتون من النفاذ إلى مراكز صناعة القرار. أقول إنّهم في منزعهم هذا، يُشهرون الحرب في وجه إسلامٍ قوامه تعظيم العقل والتصفيق للتنوير، وبالتالي فـ"الغربفوبيا" تعلة سيكولوجية لاشعورية لخدمة أغراض هذا المنزع الأخير.
والمشكل، بل الأدهى، أنّهم لا يدركون أنّهم يخدمون أغراضًا يتوهّمون أنّهم يُشهرون الحرب عليا باسم الغيرة على الإسلام.
يقول الشاعر العربي: "إن كنت تدري فتلك مصيبة، وإن كنت لا تدري فالمصيبة أعظم".
(خاص "عروبة 22")