كان للتحذير الإماراتي لإسرائيل تأثير مباشر في سحب بند "فرض السيادة" على الضفة الغربية من مناقشات المجلس الوزاري الإسرائيلي، بعد دعاية واسعة سلطت الأضواء على قرار "وشيك" بـ"ضم" الضفة أو أجزاء منها، وبعد مشروع قانون تبناه الكنيست (23.07.2025) في هذا الشأن. ولم يكن "ضمّ الأراضي" فكرة طارئة، بل هو امتداد لسياسة الاستيطان، المتأتية من سياسة الاحتلال، المنبثقة من عقيدة استعمارية هيمنت باستمرار على عقول قادة إسرائيل، بتزكية داعمة من الولايات المتحدة والقوى الغربية.
وفي الأسابيع الأخيرة أُضفي على "ضم الأراضي" طابع التحدّي، للردّ على اعتزام دول غربية الاعتراف بـ"دولة فلسطين"، وهي دول كانت/ ولا تزال حليفة لإسرائيل لكنها قرّرت أخيراً أن تفصل بين دعمها التاريخي الثابت لـ"أمنها" والسكوت على جرائمها في "حرب بلا نهاية" على قطاع غزّة. هذا التغيير فرضه الرأي العام الغربي على حكوماته (باستثناء واشنطن وبرلين)، وبدلاً من أن تتخذه حكومة إسرائيل حافزاً لمراجعة نهجها، فإنها أطلقت العنان لتطرّفها.
بُعَيد توقيع اتفاق السلام (الإبراهيمي) عام 2020، اضطرّت دولة الإمارات للدقّ على الطاولة معترضة على خطة طرحتها حكومة بنيامين نتنياهو آنذاك (ولم تكن بعد تحت هيمنة اليمين المتطرّف) لضمّ أراضٍ في الضفة. أدى الاعتراض الإماراتي إلى تدخّل الرئيس دونالد ترامب لوقف العمل بتلك الخطة. ومنذ ذلك الوقت راح يتأسس "لوبي يهودي خاص بالاتفاقات الإبراهيمية" أحاط بترامب طوال فترة غيابه عن السلطة وما لبث أن ظهر بعد عودته إلى البيت الأبيض، وأصبح له سفراء وموفدون (جميعهم من رجال الأعمال) مجنّدون لترويج أن تلك الاتفاقات هي "الابن المدلّل لترامب ويريد توسيع خريطتها ولن يسمح باعتراضها أو إحباطها".
وقد سُمعت هذه العبارة في عواصم عدة، بينها دمشق، في معرض الترغيب المشوب بالترهيب. وليس واضحاً ما إذا كان ترامب تدخّل أيضاً هذه المرّة أم أن نتنياهو فهم الدرس من تلقائه. ومع أن الوزير ماركو روبيو أبدى تفهّماً لطرح "ضمّ الأراضي" كردٍّ على الاعترافات بـ"دولة فلسطين"، واعتبره "غير نهائي" ومجرد "مناقشة بين بعض الساسة الإسرائيليين"، لكنه قال إن واشنطن أبلغت الدول (المعترفة) أنه "لن تكون هناك دولة فلسطين، لأن هذه ليست الطريقة التي تنشأ بها دولة فلسطين".
لم تشرْ الإدارات الأميركية المتعاقبة يوماً إلى "الطريقة" التي تراها مناسبة لإقامة تلك "الدولة"، وإذا كانت قد تحدثت أحياناً عن "حل الدولتين" إلا أنها لم تنضمّ أبداً إلى المؤيّدين له دولياً، بل اشترطت دائماً أن يتم الأمر "بالتفاوض بين الفلسطينيين وإسرائيل". ومع ترامب تخلت تدريجاً عن هذا الشرط لعلمها بأن إسرائيل تعتبر هذه الدولة "تهديداً دائماً لأمنها" ولن تقبل بوجودها. وقد عنت هذه الذريعة القصيرة النظر أن البديل من الدولة هو مناطق حكم ذاتي تحت الاحتلال الإسرائيلي، وهو ما صاغته "صفقة القرن" التي أعدّتها إسرائيل بالتواطؤ مع صهر ترامب (جاريد كوشنر) وفريقه، ثم تبنّاها ترامب.
وعندما حاول نتنياهو تمرير خطة الضمّ عام 2020 فإنه اعتبرها جزءاً من تلك الصفقة، كما أن خريطة ضمّ 80% من الضفة كما عرضها بتسلئيل سموتريتش أخيراً تبدو مستوحاة أيضاً من "صفقة القرن"، وهي بالنسبة إليه مكمّلة لاستيطان قطاع غزّة بعد احتلاله. هجمات "طوفان الأقصى" ضد الاحتلال أدّت بكل تداعياتها إلى تضخيم مضاعف للذريعة الأمنية ولـ"الفيتو" الإسرائيلي الذي غدا "قانوناً" أقرّه الكنيست (18.07.2024) لرفض الدولة الفلسطينية. وما لبثت الحرب أن زيّنت لنتنياهو العودة إلى فكرة "إسرائيل الكبرى" ولسموتريتش هدف توسيع خريطة إسرائيل كما طرحها قبل أعوام من الحرب على غزّة.
ووفقاً لهذين التوجّهين، راحت إسرائيل تروّج أن الشرق الأوسط "الجديد" لا يتسع لـ"دولة فلسطين" لأن فائض القوّة والدعم الترامبي يشكّلان فرصة تاريخية لتحويل المنطقة إلى "إسرائيل كبرى" ما إن يتمّ تهجير الفلسطينيين من قطاع غزّة ومناطق واسعة في الضفة الغربية. ومن أجل ذلك طوّرت إسرائيل سياسات تحدٍّ في اتجاهات عدة: استخدام الأمر الواقع في غزّة لاستفزاز مصر وفي الضفة للتضييق على الأردن، وفي جنوب سوريا لابتزاز دمشق والتهديد بتقسيم البلاد، كذلك في جنوب لبنان، فضلاً عن تحدّي تركيا باستخدام عرض القوّة ضد إيران.
وبرغم أن إسرائيل حاولت في سياستها هذه البقاء في إطار "مصالح ترامب"، إلا أنها تذهب بعيداً في تجاهل مصالح دول المنطقة. فإصرارها على التهجير يضعها في مواجهة مع تحالف مصر والسعودية والإمارات، ورفضها "حلّ الدولتين" يضعها في مواجهة مع العرب والعالم، لكن خصوصاً مع السعودية بعدما دعت إلى مؤتمر دولي لتبنّي هذا الحلّ وتعتبره شرطاً لأي بحث في "تطبيعٍ" ما. وورد في بيان للجامعة العربية أخيراً أن "لا تعايش سلمياً في المنطقة في ظل الاحتلال".
(الوطن السعودية)