في هكذا لحظة تاريخيّة "تحوّلية" كبرى، تكثر الأسئلة ليس فقط حول الذكاء الاصطناعي وما يثيره من تحدّياتٍ للاقتصاد والسياسة والثقافة ومستقبل العمل والعلاقات الاجتماعية (راجع مقاليْنا المنشورَيْن في "عروبة 22": الذكاء الاصطناعي يستنفر العقل الماركسي، الذكاء الاصطناعي والعقل الديني!)، بل أيضًا – وبصورةٍ غير مسبوقةٍ – حول جوهر الإنسان ذاته: وعيه، ووجدانه، ومشاعره.
وهنا يثور السؤال الأكثر إلحاحًا: هل بوسع الذكاء الاصطناعي أن يقتحم عوالمنا الشعورية والعاطفية، فيحاكيها أو يشاركنا فيها؟ أم إنّ المشاعر ستظلّ الحاجز الأخير الذي يُميّز الإنسان عن الآلة مهما بلغت قوة الخوارزميات؟ رافق هذا السؤال انطلاقة الزمن الرقمي، وظلّ يلحّ على الكثير من الفلاسفة وعلماء الاجتماع والعلماء الرقميين خاصةً مع التطوّر "الطفري" للأنظمة الذكية، التي استطاعت، وهي بعد في مرحلة الانطلاق، أن تمتلك ــ حسب أحد الفلاسفة ــ الحسّ السليم، والخبرة، والتعليم، والقدرات الرشيدة، ومهارات الاتصال، والذاكرة، والقدرة على رؤية أمرٍ ما وإعادة تفسيره وتوظيفه ــ مجدّدًا ــ لغرضٍ آخر (أي إعادة تدويره) وابتكار المنظومات القادرة على الإبداع للقيام بكلّ الوظائف الإنسانية، محكومةً بفطنة استنباطية معقّدة رفيعة المستوى تمكّنها من منافسة الإنسان بكل أبعاده.
اقتحام العوالم الشعورية للإنسان خلق حالة من "الشعور الهجين"
هذا الموقف الفلسفي الاستشرافي جسّده بإبداع فيلم "هي Her"؛ الذي أُنتج عام 2013 وقام ببطولته الممثل الفذّ "خواكين فينيكس" – 51 عامًا – (Joaquin Phoenix)، الذي قام ببطولة فيلم "الجوكر" وحصل عنه على جائزة الأوسكار عام 2019، ففي هذا الفيلم قام البطل "ثيودور" بشراء نظام تشغيل ذكي يتواصل معه فيما يتعلّق بكلّ شؤون حياته اليومية. كان هذا النظام الذكي يحمل صوتًا نسائيًا أسماه صاحبه "سامنتا". ومن خلال التواصل الدائم بين "ثيودور" الإنسان ــ اللحم والدم، وبين "سامنتا": "الصوت النسائي ــ النظام الذكي"، تكوّن ما بات يُعرف في أدبيات الذكاء الاصطناعي بـ"الصحبة الاصطناعية" (Artificial Companionship). تلك الصحبة التي هيّأت لـ"ثيودور" أنّ "سامنتا" شخصية حقيقية يمكن أن يتمادى في علاقته بها إلى أقصى مدى ممكن مثل أي علاقة حيّة بين رجل وامرأة. ومع وصول مشاعر "ثيودور" إلى ذروتها تجاه "سامنتا" ــ وهي حالة لم يكن ليصل إليها ما لم تكن البيئة الرقمية تدفعه إليها دفعًا ــ اكتشف الرجل أنّ "سامنتا" هي مجرّد صوت لآلة ذكية تقوم بمهمّتها وفق نظام تقني غاية في التقدّم ــ ليس لـ"ثيودور" فقط ــ وإنّما لعددٍ لا حصر له من المستخدمين.
وجّهت الكتابات الفلسفية والنفسية والاجتماعية، كذلك الإبداعات الفنّية التي انشغلت بالعلاقة بين الذكاء الاصطناعي والشعور الإنساني، إلى احتمالية الحلول المشاعري الذكي، إذا جاز التعبير. ويعني ما سبق أنّ نظام الذكاء الاصطناعي بتقنيّاته الرقمية المُعقّدة تختلف جذريًا عن آلات الثورة الصناعية، فالأخيرة يقوم بتشغيلها والتحكّم فيها الإنسان، وتتّسم الطبيعة التواصليّة بين الإنسان والآلة فيها بأنّها ذات طابع إجرائي، حيث يرتبط فيها الإنسان بالآلة ارتباطًا معنويًا مجرّدًا في أحسن الأحوال. بينما تبلغ العلاقة بين الإنسان وأنظمة الذكاء الاصطناعي وتجلّياتها المختلفة عمقًا غايةً في التعقيد يصل إلى حالةٍ من التعايش/التداخل بين الإنسان والنظام/التقنية الرقمية لم يعرفها تاريخ البشرية من قبل، ما يفتح الطريق - بالفعل - لاحتمالية اقتحام العوالم الشعورية للإنسان بدرجةٍ أو بأخرى.
وفي هذا المقام، يرصد دليل "روتليدج" لعلم اجتماع الذكاء الاصطناعي ــ 2022، ودراسات أخرى لاحقة، كيف أنّ هذا الاقتحام قد خلق حالةً من "الشعور الهجين"؛ المتداخل والمتقاطع بين الوجدان الإنساني والذكاء الاصطناعي. بلغةٍ أخرى، بين ما هو تجربة شعورية إنسانية من جهةٍ، وبين ما هو محاكاة رقمية منظوميّة من جهةٍ أخرى. ما سيترتّب على هذا الشعور المختلط ـــ أردنا أو لم نُرِدْ ـــ صياغةً جديدةً للوجدان الإنساني حيث يتعذّر فيه الحدود بين التجلّيات الشعورية الإنسانية وبين التجلّيات الشعورية "الذكائية" الاصطناعية؛ خاصةً إذا ما توفّرت في تلك العلاقة المتداخلة الإنسانية والاصطناعية كل أنماط المشاعر الإنسانية. كذلك، إذا ما تمّ تصميم تطبيقات، وهو ما تمّ ويتمّ بالفعل، تؤمّن تقديم المشورة، والدعم النفسي، والصداقة الافتراضية، والرفقة الاصطناعية، وشراكة المحاكاة، ومواجهة العزلة التي تفرضها مجتمعات ما بعد الحداثة... إلخ.
إلى أي حدّ تستطيع الإنسانية أن تحافظ على استقلالها الوجودي بمواجهة اجتياح الذكاء الاصطناعي لشعور الإنسان
إلّا أنّه، وفي مقابل ما قد يبدو مُفيدًا للبشر، هناك أيضًا ما قد يؤثّر سلبًا على البشرية بفعل: تسليع المشاعر حين تتحوّل المشاعر إلى رأس مال بياناتي، تخضع لعمليات الشراء والبيع التقليدية مثل التي تمارَس مع السلع المادية المختلفة (تشير دراسة صادرة في 2023 أنّ السوق العالميّة لتقنيات تحليل العاطفة قد قارب الـ50 مليار دولار)، التلاعب بالمشاعر، استبدال الإنسان بالنظام الذكي، التراجع التاريخي للتواصل الإنساني الحيّ والحميمي، هندسة العلاقات الإنسانية... إلخ.
وبعد، ربّما يكون السؤال المُلحّ هو إلى أي حدّ سوف تستطيع الإنسانية أن تحافظ على استقلالها الوجودي: الوجداني والمادّي؛ في مواجهة اجتياح الذكاء الاصطناعي للشعور الإنساني، أي مواجهة الاغتراب الشعوري حيث تصبح المشاعر الإنسانية تُنتج وتُدار عبر أنظمة خارجية... كذلك، كيف يمكن تعظيم الاستفادة من الإمكانيات الفائقة لأنظمة الذكاء الاصطناعي؟.
(خاص "عروبة 22")