صحافة

بعد ضرب قطر: ترامب مخدوع أم متواطئ؟

عبد الوهاب بدرخان

المشاركة
بعد ضرب قطر: ترامب مخدوع أم متواطئ؟

ليس هناك أكثر وضوحاً من التحدّي الذي وجهته إسرائيل إلى العرب باعتدائها على دولة قطر. أرادت أن تعاقب الدوحة لأنها تُلجئ القيادة السياسية لحركة "حماس"، ولأنها تتشارك مع مصر في دور وساطة طلبتها واشنطن منذ بداية الحرب، وانخرط فيها الوسيطان العربيان لتحقيق هدف رئيسي هو "إنهاء فوري للحرب على غزّة"، كما حدّدته القمة العربية- الإسلامية (الرياض، تشرين الثاني/ نوفمبر 2023).

وفي الآونة الأخيرة، تمكّنت المفاوضات حول المقترح الأميركي من جعل هذا الهدف خياراً وحيداً لوضع حدّ لفظاعات التجويع والإبادة والتهجير والتدمير. قرّرت حكومة إسرائيل اغتيال الوساطة والمفاوضين، تأكيداً لرفضها إنهاء حربٍ تعتقد أنها بلغت الآن لحظة جني ثمارها: احتلال قطاع غزّة وتهجير أهله، ضم الضفة الغربية وحشر سكانها في معازل مقطّعة الأوصال، ترهيب الدول العربية للتخلّي عن طموح "دولة فلسطين"، وتغيير وجه الشرق الأوسط تحت إسمه الجديد- "إسرائيل الكبرى"- كـ"وريثة شرعية" لـ"الإمبراطورية الإيرانية" الجديدة/ البائدة، بعواصمها الأربع.

لا بدّ من أن تبقي قمة الدوحة العربية- الإسلامية هدفَي إنهاء الحرب و "حلّ الدولتين" في أولوياتها، لكن من الطبيعي أن تركّز على القضية الطارئة المتمثّلة بـ"انتهاك سيادة الدول" كجريمة تضيفها "دولة الإرهاب" إسرائيل إلى سجلّها الأسود الطويل في المنطقة التي ترشّح نفسها لأن تكون "شرطيّها" الفاسد المتعطّش للدماء. هذه الجريمة لا تُواجَه بالإدانة فحسب، لأن قادة "دولة الإرهاب" وشعبها اصطفوا لتأييدها والتصفيق لها، موالاةً ومعارضة وحتى استطلاعات رأي عام، وتوعّدوا بتكرارها (اليوم بذريعة "حماس" (وغداً، كالعادة، من دون ذرائع)، بل تُواجَه بـ "الردع"، خصوصاً بعد أن تجرّأت إسرائيل على المسّ بأمن منطقة الخليج واستقرارها، المنطقة التي تختصر حالياً كلّ ما تبقّى من ثقل استراتيجي عربي.

كيف يكون الردع؟ ذلك هو الاختبار الصعب والحاسم، وإلا فإن إسرائيل ستخلص إلى أنها حققت اختراقاً يمكنها أن تبني عليه وتطوّره. والأكيد أن أحداً لا يتوقّع/ أو يفكر في عودة العرب إلى محاربة إسرائيل، فهم تخلّوا عن خيار الحرب قبل أربعة عقود وأعلنوا السلام "خياراً استراتيجياً"، لكنهم تأكدوا ويتأكدون كل يوم من أن إسرائيل ورثت عدوانية الدول الاستعمارية القديمة ولم تساهم أي اتفاقات تطبيع سابقة أو حديثة في تهذيب عقليتها السياسية أو تغيير سلوكها الإقليمي. فهي أسقطت "السلام" ولم تفاوض يوماً بجدّية على إزالة احتلالها للأراضي الفلسطينية بل على تثبيته وتوسيعه، وها هي لم تفاوض بجدية على وقف النار في غزّة بل تطيل الحرب لاحتلال كلّ القطاع.

ويتّضح الآن أن عواقب أي شكل من القبول العربي بالأمر الواقع الذي تفرضه إسرائيل لن تكون وخيمة على فلسطين وحدها، ناهيك بسوريا ولبنان وغيرهما. فالأطماع الإسرائيلية المعلنة تتطلّب سنين طوالاً من الصراعات ولن تتحقّق إلا باستمرار الدعم الأميركي.

كان هناك تواطؤٌ أميركيٌ في الاعتداء الإسرائيلي على الدوحة، لكن فشله في تصفية القيادة الحمسوية كشف دونالد ترامب وادارته بالجرم المشهود، ولو نجح الهجوم لكان ردّ فعلهما مختلفاً. فليس سرّاً أن واشنطن وحكومة المتطرفين في إسرائيل تعملان لـ"القضاء على حماس" كهدف رئيسي للحرب، أما استعادة الرهائن فاستُخدمت دائماً كهدفٍ ثانويٍ للتغطية وللإيقاع بقيادة الحركة، لكن اتخاذ مقترح "الصفقة" الأميركي طُعماً لاجتذاب تلك القيادة إلى الفخّ وضربها في الدوحة شكّل انحرافاً عن الهدف: إمّا أن ترامب وافق مسبقاً وبكامل الوعي على ضرب دولة حليفة لأميركا، كما تواطأ سابقاً مع إسرائيل على ضرب دولة معادية هي إيران، وإمّا أن بنيامين نتنياهو تصرّف بالتفاهم الاستراتيجي ضد "حماس" وأطلق رسالة تحدٍّ الى كل الإقليم، في استدراجٍ أول لترامب إلى اعترافٍ رسمي بـ "إسرائيل الكبرى".

مضت أربعة شهور فقط على جولة الرئيس الأميركي بين السعودية وقطر والإمارات، من دون أن يزور إسرائيل. وعلى رغم أن هذا التحرّك لم يمسّ مصالحها إلا أنها تلقته بسلبية لأنه يبلور "ندّية استراتيجية" بينها وبين دول الخليج. لذا أرادت إحباط مفاعيله، حتى لو أحرجت ترامب ووضعته في "اختبار ولاءٍ" لا يتوقّعه منها، فهي في هذه المرحلة لم تعد مكترثة بـ"الاتفاقات الإبراهيمية" العزيزة عليه، طالما أن السعودية تشترط للانضمام اليها. وبعد تواطؤ ترامب معها في إظهار تفوّقها على إيران وتدميرها "محور الممانعة"، لا تريد إسرائيل تقاسم التركة مع أي طرف إقليمي.

لم يكن ذلك "المحور" مقلقاً لها لكنه منحها الحجة الكاذبة لخوض "حرب وجودية"، ولإشعار الولايات المتحدة والدول الغربية بأنها- وهي وكيلتها للأعمال القذرة- في خطر. على العكس، إذا وضعت دول الخليج ثقلها وعلاقاتها في تفعيل "حلّ الدولتين" وإدخال "دولة فلسطين" إلى المعادلة الإقليمية فإنها لن تصحح التاريخ وتقيم توازناً اقليمياً وحسب، بل ستحكم على مشروع "إسرائيل الكبرى" بالفشل. 

(الوطن السعودية)

يتم التصفح الآن