تعمّد رئيس الوزراء الاسرائيلي بنيامين نتنياهو أن تظهر خريطة الشرق الأوسط في خلفية اللقاء الذي جمعه بوزير الخارجية الأميركي ماركو روبيو، وقبل مؤتمرهما الصحفي الذي يعكس مدى الدعم والتماهي بينهما. وهذا الظهور ليس مجرد لقطة عابرة بل يكرس محاولات تل أبيب الساعية إلى إرساء معالم "الشرق الأوسط الجديد" بعد تبشيرها بـ"اسرائيل الكبرى" مستغلة حليفها "أعظم صديق حظيت به إسرائيل على الإطلاق"، أي الرئيس الأميركي دونالد ترامب الذي يتبنى السردية الإسرائيلية ويجد لها المبررات والمسوغات ويمدّها بالأسلحة والعتاد ويفك عزلتها التي بدأت تشتد رويدًا رويدًا بعدما اعترف نتنياهو لأول مرة بذلك.
وهذه العزلة المتعددة الأبعاد، اقتصادية وتجارية وسياسية وثقافية وعسكرية، تشير إلى أن اسرائيل، التي جمعت تأييد معظم الدول بعد أحداث 7 تشرين الأول/ أكتوبر 2023 بدأت تفقد مشروعية حرب الابادة التي تمارسها بحق الفلسطينيين بينما تفشل في تحقيق الأهداف التي رفعتها منذ اليوم الأول، فلا هي استطاعت إعادة الرهائن المحتجزين ولا تمكنت من القضاء على حركة "حماس" رغم التجويع والقصف العنيف والتهجير الممنهج، حتى أن نتنياهو نفسه لا يريد للقتال هناك أن يتوقف بل يطيل أمد الحرب موجهًا ضربة للوسيط القطري الذي شنّ عليه هجومًا أمس قائلًا "هناك محاولة لفرض الحصار على اسرائيل من قبل جهات ودول مختلفة بقيادة قطر"، وذلك بالتزامن مع انعقاد القمة العربية الاسلامية الطارئة التي خرجت ببيان واضح المعالم تجاه الضربة النكراء التي قامت بها تل أبيب مستهدفة أمن الدول العربية بأكملها وليس مجرد دولة.
وضمن هذا السيّاق كانت كلمات قادة الدول التي عبرت عن "التضامن المطلق" والتأييد لقطر وأمنها وسيادة أراضيها، فيما خرج البيان الختامي للقمة، والمكوّن من 25 بندًا، بإعتبار أن هذا القصف يشكل "تصعيدًا خطيرًا واعتداءً على الجهود الدبلوماسية لاستعادة السلام". كما دعا إلى مراجعة العلاقات الدبلوماسية والاقتصادية مع إسرائيل، ومباشرة الإجراءات القانونية ضدها، مؤكدًا أهمية العمل على الوقوف في وجه مخططاتها الهادفة لفرض واقع جديد بالمنطقة، وإدانة أي محاولات إسرائيلية لتهجير الفلسطينيين بأي ذريعة وضرورة تنسيق الجهود الرامية إلى تعليق عضوية إسرائيل بالأمم المتحدة. هذا وحذّر البيان أيضًا من تبعات ضم جزء من الأراضي المحتلة، مطالبًا بتحرك دولي عاجل يضع حدًا لاعتداء إسرائيل المتكرر بالمنطقة.
أما أمير قطر الشيخ تميم بن حمد آل ثاني، فذكر في كلمته بأن "اسرائيل طرف لا يعترف بأي خطوط حمراء..بل تريد فرض أمر واقع على الدول العربية"، واصفًا الاعتداء بـ"السافر والجبان والغادر". وأشار إلى أن موقع اجتماع قادة "حماس" لبحث الورقة الأميركية كان معروفًا للجميع، وأضاف أنه "إذا كانت إسرائيل تريد اغتيال القيادة السياسية للحركة فلماذا تفاوضها؟". في غضون ذلك، بدا لافتًا ما نقله موقع "أكسيوس" عن مسؤولين إسرائيليين أشاروا إلى ان نتنياهو أبلغ ترامب في وقت متأخر جدًا (قبل 50 دقيقة) بالضربة، وان الرئيس الأميركي كان يمتلك فرصة لإلغاء قصف الدوحة "لو اعترض" عليها. إلا أن مسؤولًا أميركيًا نفى ما ورد معتبرًا أنها مجرد "اتهامات كاذبة" بحق الأخير. وليست المرة الأولى التي تتباين فيها المواقف وتتمايز ولكنها لا تخرج عن الإطار العام خاصة أن موقف واشنطن شديد الوضوح لجهة مدّ اسرائيل بكل ما يلزم لاستكمال مخططاتها التوسيعية.
وليس أدل على ذلك سوى تعهد وزير الخارجية الأميركي بمواصلة الدعم الراسخ لإسرائيل لتحقيق أهدافها في غزة على وقع انتقاده لخطط بعض الدول الغربية للاعتراف بدولة فلسطينية، قائلا إنها "خطوات في الغالب رمزية لا تقربنا من الحل.. التأثير الوحيد الذي تحدثه فعليًا هو أنها تجعل "حماس" أكثر جرأة". إلى ذلك، شهدت الساعات الماضية المزيد من التصعيد العسكري الميداني في مدينة غزة مع استمرار "إعدام" الأبراج السكنية لدفع السكان نحو الجنوب لاسيما أن عدد من نزح لا يزال يعتبر ضئيلًا أمام ما يقارب مليون و200 شخص يتخذون من المدينة مسكنًا لهم. وتظهر المشاهد تفاقم معاناة الفلسطينيين بظل الجمود التام في أفق المباحثات التي دخلت عنق الزجاجة على الرغم من أن الدوحة والقاهرة شددتا على ضرورة مواصلة مساعي وقف النار وإرساء هدنة رغم المحاولات الاسرائيلية لتفخيخ ذلك.
وكشفت صحيفتا "يديعوت أحرونوت" و"واي نت"، الإسرائيليتين، الاثنين، أن السلطات الأمنية بمصر وجهت رسالة تحذيرية صريحة إلى كل من تل أبيب وواشنطن بشأن عدم المساس بأي من قادة المقاومة على أراضيها، فضلًا عن تعزيز إجراءات الحماية، لا سيما لقادة الفصائل الفلسطينية على أراضيها، وأبرزهم الأمين العام لـ"حركة الجهاد الإسلامي" زياد النخالة، إلى جانب مسؤولين من "الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين". ويأتي ذلك بعد تهديدات نتنياهو باستهداف هؤلاء أينما وجدوا فيما تتوجه الأنظار تحديدًا الى مصر وتركيا التي تستضيف على أرضها هذه القيادات وحتى بعضهم قبل الحرب على غزة. ولكن تفلت نتنياهو من كل الاعتبارات يجعله يضرب عرض الحائط بكل التحذيرات الأمنية والضغوط الداخلية التي تشتدّ من كل حدب وصوب، فيما يستمر الخلاف بينه وبين رئيس الأركان الجيش الإسرائيلي إيال زامير الذي يشتكي من غموض سياسة الحكومة فيما يخص "اليوم التالي" للحرب وعدم وضوح الرؤية. ومن المعروف أن الأخير كان من دعاة اغتنام فرصة "الصفقة الجزئية" التي وافقت عليها حركة "حماس" سابقًا للحفاظ على حياة الأسرى المحتجزين ولكنه قوبل بحملة عنيفة ضده ما جعله يعدل عن موقفه ويقرر البدء بعملية احتلال مدينة غزة.
في إطار متصل، نبهت صحيفة "هآرتس" الإسرائيلية من الصدمات النفسية التي تفتك بالجيش الإسرائيلي وذلك ضمن تحقيق مطول استغرق أشهرًا روى جنود فيه تجاربهم مع الضغط النفسي الرهيب الذي ولدته الحرب، ما اضطرهم إلى ترك مهامهم بسبب الإرهاق، وفي أحيان قليلة نسبيًا بسبب صحوة الضمير، مستنتجة بأن الآلاف من الجنود النظاميين تركوا الخدمة بسبب ذلك، وكثيرٌ منهم إلى غير رجعة. وهذه الروايات تأتي بينما تستمر حصيلة الابادة في الارتفاع حيث استشهد 60 فلسطينيًا في غارات إسرائيلية على القطاع مع قرب بدء الهجوم البري على مدينة غزة بينما عداد ضحايا التجويع وسوء التغذية لا يتوقف وقد طال أمس أجنة وأطفال خدج بسبب غياب الامكانيات الطبية وتوجيه وزارة الصحة نداءًا عاجلًا لإرسال وحدات وأدوات نقل وفحص الدم بعد نفاد المخزون تمامًا.
هذا المشهد القاتم والسوداوية التي تحيط بحرب غزة والمخاوف من التمدّد الاستيطاني في الضفة الغربية يزيد من تعقيدات المشهد العام بينما الأوضاع في المنطقة لا تقل خطورة، وخاصة في لبنان، الذي كان أمس، الاثنين، على موعد مع تصعيد اسرائيلي جديد بعدما شنّ الطيران الحربي غارة جوية استهدفت حي "كسّار زعتر" في مدينة النبطية جنوب لبنان مخلفة عدد من الاصابات، لاسيما بين الأطفال والنساء. من جهته، قال الجيش الإسرائيلي، في بيانٍ، أن قواته قصفت "مقرًا لـ"حزب الله"، مدعيًا بأن ذلك "يعدّ انتهاكًا للتفاهمات بين إسرائيل ولبنان". وتستمر تل أبيب في نقض إتفاق وقف النار المبرم في تشرين الثاني/ نوفمبر الماضي من دون أي حسيب أو رقيب بينما تنشغل الحكومة اللبنانية بإجراء المباحثات ومطالبة الدول الكبرى، لاسيما واشنطن وباريس، بدفع اسرائيل للحدّ من تجاوزاتها والالتزام بما تم الاتفاق عليه سابقًا والانسحاب من الأراضي التي تحتلها.
سوريًا، تشهد البلاد محاولة لاستعادة الاستقرار الداخلي والحدّ من ظاهرة السلاح المتفلت والعشوائي، إذ أعلنت وزارة الداخلية عن ضبط كميات كبيرة من الأسلحة والذخائر المتنوّعة في منطقة نوى بريف درعا، وقالت إن تلك الأسلحة "مسروقة من الثكنات العسكرية إبان سقوط النظام البائد، وكانت معدّة للتجارة غير المشروعة". بينما نشرت أيضًا صورًا لكميات كبيرة من الأسلحة الثقيلة والخفيفة وذخائر متنوعة في ريف دمشق الغربي، مشيرة إلى أنها كانت معدّة للتهريب خارج البلاد، دون الكشف عن الجهة التي كانت الأسلحة ستُهرب إليها. وتفاقمت هذه الظاهرة بعد سقوط نظام بشار الأسد والحرب الدامية التي استمرت زهاء 14 عامًا في البلاد ولكنها تشهد اليوم حملة منظمة للحدّ من تداعياتها. ومن هذا المنطلق ذكرت وكالة "رويترز"، في تقرير موسّع، أن الرئيس السوري أحمد الشرع، الذي تولى السلطة قبل تسعة أشهر، حقق تقدمًا دبلوماسيًا ملحوظًا على الساحة الدولية، غير أنه يواجه صعوبات متزايدة في الداخل مع استمرار الانقسامات بين المكونات السورية، في إشارة إلى الأكراد والدروز ناهيك عن مخاوف العلويين الآخذة في التفاقم.
على المقلب الإيراني، دعا وزير الطاقة الأميركي كريس رايت إلى تفكيك البرنامج النووي "بالكامل"، بما في ذلك جميع "قدرات التخصيب الخاص باليورانيوم، وإعادة معالجة البلوتونيوم"، خلال انعقاد المؤتمر العام السنوي للوكالة الدولية للطاقة الذرية في فيينا فيما اعتبر رئيس "منظمة الطاقة الذرية الإيرانية"، محمد إسلامي، في المقابل، أنه "ينبغي لأعداء إيران أن يدركوا أن العلم والتكنولوجيا والمعرفة والصناعة النووية في إيران متجذرة، ولا يمكن محوها عبر الاغتيالات أو الاعتداءات العسكرية"، واصفًا الهجوم الاسرائيلي الأخير على البلاد بـ"الاجرامي والجبان"، والذي "لم يكن مجرد تدمير للمنشآت النووية الإيرانية؛ بل السعي الدائم لتقويض مسار الدبلوماسية والسلام". أما المدير العام للوكالة الدولية للطاقة الذرية رافائيل غروسي، فقد رأى أن الوقت قد حان لتطبيق الاتفاق مع إيران بشأن استئناف عمليات التفتيش.
وعن الصحف العربية الصادرة اليوم، هذا موجزٌ بأبرز ما ورد في عناوينها وافتتاحياتها الصباحية:
أشارت صحيفة "الغد" الأردنية إلى أنه "لا يوجد أي ضمانات، فلا بد أن تعتدي إسرائيل في وقت لاحق على خمس دول مدرجة على الأجندة الإسرائيلية، مهما تلاعبنا بالتوقعات. هذه الدول المدرجة هي تركيا، إيران، مصر، الأردن، والعراق، ولا حصانات في هذه الحالات، لا اتفاقيات سلام، ولا عضوية في الناتو كما هي حالة تركيا، ولا أي عامل سيمنع حتى الآن أي عدوان". وأضافت قائلة: "لم يعد هناك بنية عربية إسلامية موحدة على المستوى السياسي، لكل دولة حساباتها ومصالحها وعلاقاتها مع واشنطن أو غيرها، ضمن معايير تكبلها، وتمنعها عن أي رد فعل، كما أن هذه الدول تخلت عن مبدأ الشراكة في المواجهة والتضحية لصالح حماية نفسها، وأن يحتمل كل طرف آخر كلفة مشاكله، وأزماته، هذا على الرغم من احتمالية امتداد الأزمات".
الموضوع عينه تناولته صحيفة "الأهرام " المصرية التي لفتت إلى أن "لعنة الانقسامات تسللت بين الشعوب، وأصبحت تهدد النسيج الاجتماعي والاقتصادي والأمني، بل إنها تهدد العقائد الدينية والثوابت التي تمثل الجذور الحضارية والثقافية"، موضحة أن " أمريكا قسمت العالم العربي ومنحت إسرائيل حق الوصاية وتركتها تعربد في كل شيء.. وإن حالة الانقسام والتشتت التي تعيشها الدول العربية تعيد إلى الأذهان عهود الاستعمار والتبعية التي عاشتها حين فرطت في حريتها واستقلالها، ودفعت الثمن غاليًا، ويبدو أنها ستدفعه مرة أخرى"، بحسب تعبيرها.
وكتبت صحيفة "عكاظ" السعودية عما أسمته "الغرور الكبير الذي يسيطر على بنيامين نتنياهو ما جعله لا يفكر في نتائج تهوره غير المسبوق في تأريخ النزاع العربي الإسرائيلي. هو يحرق أوراق إسرائيل بشكل سريع وينسف سرديتها التي تغالط بها العالم منذ وقت طويل، وممارساته المتمادية في غطرستها وتعدياتها على كل القوانين الدولية لن تكون نمطًا مستمرًا يتعايش معه العالم دون لجم"، مضيفة "هناك أوراق كثيرة ومهمة جدًا تملكها الكتلة العربية الإسلامية التي تقف الآن ضد العربدة الإسرائيلية، أوراق سياسية واقتصادية لا يمكن التقليل من تأثيرها إذا تم استخدامها بمهارة وشجاعة، وهذا أنسب وقت لتفعيلها".
من جانبها، تطرقت صحيفة "الخليج" الاماراتية إلى وقائع القمتين الاستثنائيتين اللتين عقدتا في الدوحة، الأولى لدول مجلس التعاون لدول الخليج العربية، والثانية للدول العربية والإسلامية، للتباحث حول الجريمة الإسرائيلية التي ارتكبت في الدوحة، والتي تعد امتدادًا لجرائم إسرائيل الآخذة في التوسع والتزايد والتصاعد، ليس فقط في الأراضي الفلسطينية المحتلة، وإنما في كل المنطقة، في ظل خطاب إسرائيلي يتناقض مع المنطلقات البديهية لأي تفاهم وتعايش، مستنتجة أن "الدول الخليجية والعربية والإسلامية قالت كلمتها، وبات على إسرائيل أن تستوعب الدروس من سلوكها العدواني، وما جره وماقد يجره عليها إقليميًا وعالميًا".
(رصد "عروبة 22")