لا يحتاج الأردني اليوم لتذكيره أنه "عالق" تماما في ملفي "الغاز والمياه" بين فكي كماشة "إسرائيل الجديدة". ولا يحتاج الشارع للقناة الإسرائيلية 14 حتى تنشط ذاكرته وتطالب المجرم الدولي الإرهابي بنيامين نتنياهو بـ"حجب الغاز والمياه" ردا على تصريحات وزير الخارجية في كشف حقائق ووقائع الجرائم الإسرائيلية. أولا وزير الخارجية ومن المرات النادرة يمثل فيما يقوله هذه الأيام نبض الشعب الأردني… ذلك مكسب استثنائي وكبير ليس لوزارة الخارجية بل للمؤسسة كلها يمكن القول وبضمير مرتاح أنه ولأسباب وطنية أهم بكثير من البقاء في ملف "السوائل الاستراتيجية" في التبعية للكيان.
أي لحظة تغضب فيه المؤسسة الرسمية من إسرائيل وتتصدى بالقول والفعل فيها لأطماع وجرائم الكيان تعبير دقيق عن مكاسب وطنية استراتيجية لا يمكن تعويضها لأن الإقرار البيروقراطي أو الدبلوماسي بالحقائق والوقائع التي يتبناها عامة الناس في فهمهم المتقدم على الحكومة لـ"العدو" خطوة أساسية لا ثمن لها في جمع وتوحيد الأردنيين خلف مؤسساتهم وثوابتهم وقيادتهم. لا توجد "قضية" بعد الشرعية والدولة قادرة فعلا على "توحيد الأردنيين ومكوناتهم" أكثر من "القضية الفلسطينية" ولا يوجد "جامع وطني" عابر اليوم للمكونات والنقاشات والتجاذبات والاستقطابات أكبر تأثيرا من العداء والخصومة مع الكيان.
واضح أن بعض مؤسسات الحكومة بدأت تستيقظ. الأهم أن لحظة الحقيقة إنكارها اليوم قد يرقى إلى مستوى الجهل الوطني أو حتى ارتكاب جريمة بحق الوطن. مطلوب من الناس بدلا من الضغط والاجتهاد إسناد "اليقظة" الرسمية وإظهار ما يخشاه العدو حتما على "واجهة النشامى" وهو أنهم في الاشتباك مع العدو المتربص "على قلب رجل واحد" ولا مكان وسطهم لنص فتنوي أو تسلل مقترحات يستثمر فيها فقط العدو. التعامل مع لحظة الحقيقة يتطلب طبعا ودوما تجنب الانفعال والتورط ويرتبط بإيقاع يمنح المؤسسات السيادية مساحتها كاملة في المناورة والمبادرة بعيدا عن الشعبويات، وهذا التعامل أشبه بـ«عملية» تبنى بهدوء على مقاييس ليس بالضرورة يخبرها العامة أو يستطيعون الإفتاء في مقتضياتها.
الاستيقاظ من "وهم السلام والاتفاقية" منجز وطني والإنتاجية مرهونة بمصارحات وطنية بناءة وإيجابية بين الدولة ومواطنيها وتحصين وحماية الجبهة الداخلية ليس مجرد شعار نهتف به بصفة فردية دون ممارسة يقوم فيها كل طرف بواجباته المباشرة. حتى تصبح تلك اليقظة أقرب إلى خطة عمل لابد من التأسيس لمساحات شراكة تقر بالوقائع كما هي وتتطلع للمستقبل دون أن تقف فقط عند "نبش الماضي" حيث أخطاء بالجملة ارتكبت وثقافة تكرست لم تكن تفترض "لدغات الغدر" من الشريك السلمي الذي تحول إلى وحش يهدد "كل ما هو أردني اليوم".
التلميح لـ"حرمان" الشعب الأردني من الغاز والمياه ليس مفاجئا وكل من لم يكن يتوقعه أصلا واهم وهو تلميح "استعراضي" هدفه المؤكد إخضاع الحكومة والشعب مسبقا وإرباك الخطوط والضغط على الدولة واللعب بالأوراق المحرمة. الشعب الأردني بطبعه صبور ومؤمن ومقاتل عند الضرورة شريطة أن تصدقه دولته القول ومكوناته الأساسية من قبائل وعشائر ولاجئين لم تكن يوما معنية بحياة "المترفين" ويمكنها عند الحاجة احتمال الجوع والعطش بصيغة ستفاجئ العدو في حال اتخذت الحكومة قرارات وطنية تفكك العلاقة مع الكيان الطامع الإجرامي المعتدي.
خبرات الدولة الأردنية وتحالفاتها يمكنها توفير "بدائل" في أي لحظة عن الغاز الإسرائيلي وملف المياه يمكن تعويض فاقده الإسرائيلي بتكريس التحالف والصداقة والعلاقة مع "سوريا الجديدة". أي لحظة يهدد فيها العدو الشعب الأردني بالغاز المسروق والمياه المخطوفة أصلا من أهلها ينبغي أن تدفع الأردنيين لاستخدام أوراقهم التي يعرف الكيان أنها "موجعة"، مع التذكير بأن في الأردن مؤسسات خبيرة ضارية وشعبا مقاتلا لا يقبل الضيم، مشكلته الوحيدة في نخبه السياسية التي بقيت طوال الوقت تحتكر الولاء بعيدا عنه وتزعم أنه شعب مدلل لم يختبر.
الاختبار الأقسى الذي عايشه الأردنيون كان في الأدوات والنخب التي احترفت "إبعاد الشعب عن قيادته" لمصالحها الصغيرة طوال عقود، لكن تلك الأدوات تتوارى عند الاصطدام وطنيا بلحظة الحقيقة مع "عدو أبدي مثل إسرائيل". لا نخترع العجلة إذا قلنا إن آباء وأجداد الأردنيين كانوا يشعلون الحطب لطهي الطعام وملايين الأردنيين من متوسطي وكبار العمر اليوم عاشوا لسنوات في قراهم ومخيماتهم بدون "كهرباء" فيما أهل غزة الأوفياء الصامدون علموا الكون وبقية الشعوب معنى الصمود في مواجهة قنابل زنة 2000 طن.
الغاز ضروري لكن الكرامة بالنسبة للأردنيين أهم. المياه أساسية لكن الشعب الأردني يمكنه ترشيد استهلاكها عبر تحسين الحصاد المائي. من سيفتقدون مظاهر الترفيه من المواطنين هم من لديهم عدة سيارات في باحة المنزل، كمية المياه المستعملة لتنظيفها تسقي قرية بأكملها، ولديهم خدم وحشم ومطابخ تحتاج للكهرباء والغاز… هؤلاء أقلية في عمان العاصمة. ما يتوجب فعله ليس فقط الاستعداد لابتزاز وشيك سيمارسه العدو في ملفي الغاز والمياه بل المبادرة للتفكك من اتفاقيات تصلح للابتزاز… الحكومة عليها تعليق الجرس والشعب يتكفل بالباقي شريطة الصدق وإعادة الاعتبار للرموز الوطنية.
(القدس العربي)