إنّ أشجار الزيتون في فلسطين ليست مجرد نبات مثمر، بل هي ذاكرة وهوية وامتداد للوجود الفلسطيني على الأرض، وتختزن في أغصانها معاني الصمود والخلود. ومن هنا، فإن استهدافها لم يكن عملًا عشوائيًا، بل سياسة ممنهجة تعادل في رمزيتها استهداف الإنسان الفلسطيني نفسه. ففي الأشهر الأخيرة، ومع اشتداد حرب الابادة الإسرائيلية على قطاع غزة، لم يقتصر الدمار على البشر والحجر، بل امتد ليطال حرق عشرات الآلاف من أشجار الزيتون التي كانت يومًا ما شاهدة على حياة كاملة... والملفت للنظر وما يزيد فداحة المشهد هو ذلك الصمت الدولي، بما فيه صمت الدول التي اعترفت رسميًا بدولة فلسطين، إذ بدا العالم وكأنه فقد حساسيته تجاه المأساة، أو أنه اكتفى بالبيانات الخطابية التي لا تنقذ طفلًا من الجوع ولا شجرة من الاحتراق.
تعيش غزة واحدة من أحلك لحظات تاريخها. فمنذ أكتوبر 2023، لم تهدأ آلة الحرب الإسرائيلية، بل اتخذت شكلًا تصعيديًا بلغ ذروته في أغسطس 2025، حين أقرّت الحكومة الإسرائيلية خطة للهجوم على مدينة غزة نفسها، في مؤشر على أن تل أبيب ماضية نحو سيناريو نزوح جماعي جديد، قد يتجاوز المليون فلسطيني.
وخلال أيام معدودة، أودت الهجمات بحياة عشرات المدنيين يوميًا، فيما ارتفعت أعداد ضحايا الجوع لتُسجل أرقامًا مفزعة، بعد أن أعلنت الأمم المتحدة رسميًا دخول القطاع في حالة مجاعة، حيث يواجه أكثر من 600 ألف إنسان خطر الموت جوعًا.
إنها صورة شاملة لسياسة متعمدة في القصف، والحصار، والتجويع، وتدمير البنية التحتية. غير أن الاستهداف هذه المرة لم يقف عند حدود البشر، بل امتد ليضرب قلب الزراعة الفلسطينية ورمزها الأزلي (الزيتون).
وبحسب تقارير وزارة الزراعة الفلسطينية ومنظمات دولية، تم تدمير ما يزيد على 75% من أشجار الزيتون في غزة خلال الحرب، فأكثر من مليوني شجرة زُرعت عبر أجيال متعاقبة تحولت إلى هباء..
ووفق القانون الدولي الإنساني، يُعتبر استهداف الزراعة وموارد الغذاء جريمة حرب صريحة، إذ تنص اتفاقيات جنيف على ضرورة حماية الأعيان المدنية التي تمكن السكان من البقاء. ومن هنا، فإن اقتلاع ملايين الأشجار، وحرمان المدنيين من موردهم الغذائي الأساسي، يرتقي إلى مستوى جريمة ممنهجة ضد الإنسانية.
الأمر لا يتوقف عند الزيتون، بل يشمل المياه، الأراضي الزراعية، وحتى الثروة السمكية في غزة التي تراجعت نتيجة الحصار البحري. هذا النمط من السياسات يُعرف في الدراسات القانونية بمصطلح "التدمير الممنهج لسبل العيش"، وهو أحد أركان جريمة الإبادة البطيئة...
وقد عبّرت دول كثيرة عن قناعتها بأنّ ما يحدث في غزة يدخل في إطار الإبادة الجماعية، في حين دعمت دول أخرى، بينها جنوب أفريقيا ومصر وماليزيا، القضية المرفوعة أمام محكمة العدل الدولية ضد إسرائيل... كذلك، أصدرت المحكمة الجنائية الدولية أوامر توقيف بحق رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو ووزير دفاعه، غير أن كل هذه الإجراءات ما زالت حبرًا على ورق في غياب آليات تنفيذية حقيقية.
المؤلم في كل ذلك ليس الجريمة بحد ذاتها، بل صمت العالم.. فلم تُفرض عقوبات اقتصادية، لم يُوقف تصدير السلاح، ولم تُقاطَع إسرائيل دبلوماسيًا. بل على العكس، واصلت بعض الحكومات الغربية دعمها العسكري والمالي للاحتلال، بذريعة "حق الدفاع عن النفس".. حتى الدول العربية والإسلامية التي تُدين لفظيًا، لم تتخذ خطوات تصعيدية كافية. وبذلك، وجد الفلسطيني نفسه وحيدًا أمام واحدة من أعنف الآلات العسكرية في العالم.
لقد تحوّل الضمير العالمي إلى مجرد صدى للبيانات الصحفية، بينما ينهار الواقع يومًا بعد يوم، وهذه الازدواجية تكشف أن النظام الدولي الحالي لا يُدار بالعدالة ولا بالقانون، بل بموازين القوة والمصالح.
في غزة اليوم الصمت جريمة والتفرّج على الإبادة جريمة أكبر.
(خاص "عروبة 22")