إذا كان من المؤكّد أنّ التحرّكات الرسمية العربية والدولية من أجل الضغط على تل أبيب لوقف جرائمها لم تسفر حتى اللحظة عن أي تغيير في السلوك الإسرائيلي، واستمرّت في عدوانها واقتحمت مدينة غزّة في محاولةٍ لنقل مليون فلسطيني من الشمال والوسط إلى الجنوب بالقرب من الحدود المصرية، بما يعني أنّ دولة الاحتلال تعمل في أرض الواقع على تهجير جزئي لحوالي نصف مليون فلسطيني، ممّا يسمح لها بإقامة منطقةٍ عازلةٍ في شمال غزّة تقدّر بما بين 5 و7 كيلومترات.
قمّة الدوحة مشكلتها مثل باقي القمم العربية أنّها لا تمتلك أيّ آلية للتنفيذ ولا تتخذ إجراءً واحدًا ضدّ إسرائيل
والحقيقة أنّ العالم العربي في حاجةٍ إلى اعتماد أداتَيْن في تحرّكه؛ واحدة في يده وهي تحويل القرارات وبيانات الشجب والإدانة إلى إجراءات، والثانية في يد شعوبه والمطلوب فقط من حكّامه أن يتركوهم ويعطوا هامش حركةٍ لجمعياته ومؤسّساته الأهلية لكي تتواصل مع نظرائها في العالم كله ممّن يُناضلون من أجل وقف الحرب وجرائم الإبادة الجماعية.
والحقيقة أنّ القمّة الأخيرة التي عُقدت في الدوحة أصدرت بيانًا وتوصيات، ومشكلتها مثل باقي القمم العربية أنّها لا تمتلك أيّ آليةٍ للتنفيذ ولا تتخذ إجراءً واحدًا ضدّ إسرائيل يبدأ من المقاطعة الكاملة لها تجاريًا واقتصاديًا وينتهي برفض مرور طائراتها في أجواء كلّ الدول العربية والإسلامية ومقاطعتها في أي محفل دولي وممارسة دورٍ تحريضيّ ضدّ سياساتها في كلّ عواصم العالم.
فرضت الكثير من النظم العربية قيودًا على التحركات الشعبية الداعمة لفلسطين
وقد كشف تحرّك جنوب أفريقيا في "محكمة العدل الدولية" واتهامها لإسرائيل بارتكاب جرائم إبادة جماعية، عن مدى ضعف الموقف العربي وشجاعة وجرأة الموقف الجنوب أفريقي. وأظهر المحامون ورجال القانون في جنوب أفريقيا مهارةً ومهنيةً فائقةً أثناء مرافعتهم، وشرحوا في دعواهم حجم الجرائم الوحشية التي تُرتكب في غزّة. واعتبرت محكمة العدل أنّ هناك شواهد على أنّ إسرائيل ترتكب جرائم إبادةٍ جماعيةٍ، وطالبتها باتخاذ إجراءاتٍ تتعلّق بحماية الشعب الفلسطيني لم تلتزم بها إسرائيل كما هي العادة.
من المهمّ أن يتغيّر الأداء الرسمي العربي ليكون أكثر فعّاليةً وخشونةً تجاه الممارسات الإسرائيلية، وأن يضع آلياتٍ تنفّذ ما يُعلنه من قرارات وبيانات إدانة وشجب، فالاتحاد الأوروبي الذي ما زال حذرًا في اتخاذ خطواتٍ ملموسةٍ نحو مقاطعة إسرائيل، هناك بعض دوله قررت مقاطعة إسرائيل تجاريًا واقتصاديًا. أمّا تركيا التي ظلّت لفترةٍ طويلةٍ تُردّدُ خطابًا سياسيًا وإعلاميًا رسميًا حادًّا للغاية في مواجهة إسرائيل، فقد قررت الشهر الماضي قطع علاقاتها التجارية والاقتصادية معها، فالعبرة والحكم النهائي ليس ببيانات الشجب والإدانة إنّما بامتلاك آليةٍ لتنفيذ ولو سطر أو نقطة واحدة من هذه البيانات.
لا يمكن تصوّر أنّ منظمة تحمل اسم طفلة فلسطينية تعمّد جنود الاحتلال قتلها أُسّست في بروكسل من دون مشاركة عربية
أمّا الجانب الآخر فهو التحرّكات الشعبية العالمية الداعمة للشعب الفلسطيني، والتي فرضت الكثير من النظم العربية قيودًا كثيرةً عليها ومنعت تواصل المؤسّسات الشعبية مع هذه التحرّكات، فباستثناء بلاد مثل المغرب وتونس ولبنان والتي تتمتّع بدرجات متفاوتة بهامش سياسي واضح سمح بوجود تحرّكات شعبية داعمة للشعب الفلسطيني، فإنّ بلدًا مثل المغرب فاقت التحرّكات الشعبية في مختلف المدن المغربية نظيرتها الأوروبية، على الرَّغم من وجود علاقات بين الحكومة المغربية وإسرائيل قبل أن تُجمَّد مع حرب غزّة.
لا يمكن تصوّر أنّ منظمةً مثل "هند رجب" التي تحمل اسم الطفلة الفلسطينية التي تعمّد جنود الاحتلال قتلها بدمٍ باردٍ، أُسّست في بروكسل عام 2024 ويكون هدفها ملاحقة الجنود الإسرائيليين المتهمين بارتكاب جرائم حرب ضدّ الفلسطينيين، من دون مشاركة عربية أو دعم عربي أهلي من أي نوع.
الأداء الرسمي العربي فيه أوجه قصور كثيرة ويمكن إصلاحه بعد أن أصبح الخطر الإسرائيلي يستهدف الجميع
فقد وثقت مؤسّسة هند رجب "الأوروبية" جرائم جنود الاحتلال بعشراتٍ من مقاطع الفيديو وحدّدت أماكن ارتكاب جرائم الحرب من دون أن تشارك جمعية أهلية عربية واحدة في هذا العمل البطولي. وعلى الرَّغم من الصعوبات التي تواجهها هذه الجمعيات في الغرب، إلّا أنّها فتحت الطريق أمام نمطٍ من المقاومة المدنية والسلمية. ويصبح السؤال هل تأسّست في العالم العربي جمعياتٌ توثّق جرائم الاحتلال وتحصر أعداد الأُسَر التي مُسحت من السجل المدني وتفاصيل استشهاد نحو 20 ألف طفل في غزّة، أم اكتفى الكثيرون بالشجب والصريخ رفضًا للسياسات الإسرائيلية؟!.
الأداء الرسمي العربي فيه أوجه قصور كثيرة ومع ذلك يمكن إصلاحه أو تطويره بعد أن أصبح الخطر الإسرائيلي يستهدف الجميع حلفاء أميركا وخصومها. كما إنّ هذا الأداء مُعوّق لتحرّكات شعوبه ويقف في أحيانٍ كثيرةٍ كحائط سدّ أمام هذه التحرّكات لدعم الشعب الفلسطيني، وهو ما يجب التوقّف عنه وترك الناس تُعبّر عمّا بداخلها مثل باقي شعوب الدنيا.
(خاص "عروبة 22")