اقتصاد ومال

الاقتصاد المصري... من "الصندوق" إلى "السرديّة"!

أطلقت الحكومة المصرية مؤخّرًا ما أسمته "السرديّة الوطنية للتنمية الاقتصادية" كبرنامجٍ لعمل الحكومة، بعد انتهاء البرنامج الذي يتمّ تطبيقه بالاتفاق مع "صندوق النقد الدولي" في نوفمبر/تشرين الثاني من العام المقبل، والذي خلّف تدهورًا هائلًا للعملة الوطنية وغلاءً وفقرًا، وجمودًا للصناعة التحويلية، واستنزف المالية العامة في الإنفاق على البنية الأساسية والمشروعات العقارية.

الاقتصاد المصري... من

الحقيقة أنّني لم أفهم سرّ اختيار مصطلح "السرديّة" أي الحكاية، فالاقتصادات يتمّ تسييرها وتحقيق مستهدفاتها من خلال الخطط السنويّة والخمسيّة والعشريّة في حالة هيمنة الدولة على الاقتصاد، ومن خلال السياسات الكلّية والمالية والنقدية في حالة الاقتصاد المختلط أو الخاص. أمّا أن يُدار الاقتصاد من خلال حكاية "سرديّة" وآمال وأحلام فهذا أمر جديد!

هل يمكن تحقيق نموّ 7% سنويًا بمعدل استثمار 18%؟!

بعيدًا عن المسمّى، تستهدف "السرديّة" الوصول بمعدل النموّ في مصر إلى 7% عام 2030 صعودًا من المستوى الراهن البالغ 4.5% حسب "السرديّة"، والمختلف قليلًا عن البيانات الرسمية التي تُشير إلى أنّ النموّ في العام 2025 يبلغ 3.8%، والنموّ المتوقع في العام المقبل 2026 يبلغ 4.3%، ومتوسط معدّل النموّ السنوي من 2014 إلى 2025 يبلغ 4.2%.

ومعدّل الاستثمار أي الاستثمارات الجديدة كنسبةٍ من الناتج المحلي الإجمالي، هو المعدّل الحاكم لنموّ الاقتصاد، حيث ينمو الاقتصاد من خلال ما تنتجه الاستثمارات الجديدة، ورفع إنتاجية الاستثمارات القائمة. ومعدّل الاستثمار المُستهدف في "السرديّة" والبالغ 18% من الناتج المحلي الإجمالي، لا يمكنه أن يرفع معدّل النموّ الحقيقي للناتج إلى 7% سنويا. ووفقًا لحسابات اقتصادية فإنّه يمكن أن يُحقق نموًّا يدور حول مستوى 3.5%، أي نصف المعدل المُستهدف!

المقلق هو ضخامة الدين قصير الأجل الذي بلغ 31 مليار دولار

ويزيد معدّل الاستثمار في الدول التي تستهدف تحقيق نموٍّ بحدود 7%، على 30% من الناتج المحلّي الإجمالي على الأقلّ، على غرار الهند (33%)، وفيتنام (32%). وكانت الصين تحقّق معدّلات استثمار تزيد على 40% مكّنتها من تحقيق أطول دورة نموّ متواصلة في التاريخ الحديث بنسبة 10% سنويًا في المتوسط لمدّة 35 سنة.

وتشير البيانات الرسمية إلى أنّ معدل الادّخار بلغ 14.3% من الناتج المحلي الإجمالي المصري عام 2022/2023، وانحدر إلى 6.1% في تقديرات عام 2023/2024. أمّا معدل الاستثمار فبلغ 16.5% من الناتج المحلي الإجمالي عام 2022/2023، وانخفض بدوره إلى 13% عام 2023/2024، علمًا أنّ المتوسط العالمي 26% من الناتج العالمي لكلٍّ من المعدلَيْن.

تكلفة باهظة لنموّ متوسط!

بلغ متوسط معدّل النموّ السنوي للناتج المحلي الإجمالي المصري نحو 4.2% سنويًا خلال الفترة من عام 2014 حتى العام 2025، ولكن بتكلفةٍ هائلةٍ، بحيث ارتفع الدين العام المحلّي من 1.8 تريليون جنيه في يونيو/حزيران 2014 إلى 18.4 تريليون جنيه في مشروع الموازنة للعام 2025/2026. كما ارتفع الدين الخارجي من 46.1 مليار دولار في يونيو/حزيران 2014 إلى 155.1 مليار دولار في بداية عام 2025. والأمر المقلق حقًّا هو ضخامة الدين قصير الأجل الذي بلغ 31 مليار دولار في يناير/كانون الثاني 2025. ووصلت قيمة فوائد وأقساط الدين العام المحلي والخارجي إلى 4383.6 مليار جنيه في العام المالي 2025/2026، بما يهدّد استدامة الموازنة العامة للدولة ويستنزف ما يزيد كثيرًا على الإيرادات العامة البالغة 3120 مليار جنيه في العام المالي المذكور!!

"السرديّة" لم تطرح برنامجًا واضحًا وخطة عملية لتحقيق الرقم المستهدف في فرص العمل

وضمن التكلفة، بلغ متوسط معدّل التضخّم المعلن رسميًا نحو 15.5% سنويًا خلال الفترة من عام 2014 حتى عام 2025، بما أدّى إلى رفع تكاليف المعيشة وتخفيض القدرة الشرائية ودفع شرائح جديدة من الطبقة الوسطى إلى مصاف الفقراء. كما تفاقم عجز ميزان الحساب الجاري الذي بلغ -5.4% من الناتج المحلي الإجمالي عام 2024، ومن المتوقع أن يبلغ -5.8% في العام الحالي 2025. وتلك تكلفة نموّ يكاد يكون متوسطًا تحمّلها الفقراء والطبقة الوسطى، فكيف ستكون تكلفة النموّ السريع الذي تبشّر به "السرديّة" في ظلّ السياسات اليمينية المتشدّدة نفسها، ومن سيتحمّلها؟!.

وضمن أهداف "السرديّة"، تطمح الحكومة إلى خلق 1.5 مليون فرصة عمل سنويًا بحلول عام 2030، علمًا أنّ البيانات الرسمية تشير إلى أنّ عدد فرص العمل التي تمّ خلقها خلال السنوات العشر من عام 2014 إلى عام 2024 بلغ 5.6 ملايين، بمتوسّط 560 ألف فرصة عمل جديدة في العام وفقًا للبيانات الرسمية. وعلى الرَّغم من الفجوة الكبيرة بين هذا المتوسط والرقم المُستهدف عام 2030، إلّا أنّ تحقيقه ممكن شرط أن يكون هناك برنامج واضح وخطة عملية لتحقيقه، وهو ما لم تطرحه "السرديّة".

زيادة الصادرات 255% هدف مستحيل بدون دفعة استثمارية كبرى لقطاعات الإنتاج

تشير "السرديّة" إلى استهداف رفع قيمة الصادرات السلعية إلى 145 مليار دولار بحلول عام 2030، علمًا أنّها بلغت نحو 40.9 مليار دولار في العام المالي 2024/2025. أي أنّ الزيادة المطلوبة خلال 5 سنوات تبلغ 255% من قيمة الصادرات الحالية. وهذا الهدف مجرّد أمنية طيبة لا توجد خطة محدّدة لتحقيقها. وتجدر الإشارة إلى أنّ الصادرات السلعية المصرية تتذبذب بشكلٍ حادٍّ تبعًا لحركة أسعار النفط الذي شكّل ما يتراوح ما بين نصف وثلث تلك الصادرات خلال ربع القرن الأخير. وقد بلغت قيمتها 29.4 مليار دولار عام 2007/2008، وانخفضت إلى 23.9 مليار دولار عام 2009/2010، وبلغت نحو 26 مليار دولار عام 2013/2014، وبلغت أدنى مستوياتها خلال ما يقرب من ربع قرن في عام 2015/2016 عندما سجّلت 18.7 مليار دولار، وسجّلت أعلى قيمة لها عام 2021/2022 عندما بلغت 43.4 مليار دولار.

رفع قيمة الصادرات يبدأ بوضع خطة عملية لاستنهاض الاستثمارات والنموّ في قطاع الصناعة التحويلية

وإزاء هذا التذبذب، فإنّ الزيادة المُستهدفة للصادرات السلعية تصبح مجرّد وهم، إذا لم يرتفع الإنتاج الصناعي والزراعي بصورةٍ هائلةٍ عبر دفعة قوية من الاستثمارات في القطاعات الإنتاجية، وهو ما لا توجد خطة واضحة بشأنه. بل إن البيانات الرسمية تشير إلى ركود الصناعة التحويلية التي تراجع ناتجها بنسبة -3.4% عام 2022/2023، ونحو -5.4% عام 2023/2024. وأيّ حديث جدّي عن رفع قيمة الصادرات على النحو المُستهدف، يبدأ بوضع خطةٍ عمليةٍ لاستنهاض الاستثمارات والنموّ في قطاع الصناعة التحويلية الذي يخيّم عليه الجمود وفقًا للبيانات الرسمية.

(خاص "عروبة 22")

يتم التصفح الآن