ماذا تريد إسرائيل من لبنان اليوم؟ سحب سلاح "حزب الله"؟ الاعتراف بها وإقامة علاقات دبلوماسية واقتصادية مؤطرة بتفاهمات أمنية معها؟ تفجير الوضع الداخلي في لبنان على خلفية الانقسام حول الحزب وسلاحه ونتائج حربه الأخيرة؟ هل تنطلق في الحسابات من أن حرب العام الماضي المبتدئة في مثل هذه الأيام كانت المنعطف الحاسم والنهائي وكل ما بعده تداعيات له وانهيارات في الداخل اللبناني؟ أم أن الزمن عندها الآن هو زمن "ما بين الحربين" الإجهازيتين على ترسانة وتركيبة الحزب؟ كيف يمكن وصف الوضع المتأتي من توقيع لبنان – من بالتحديد في لبنان؟ – على تفاهم وقف إطلاق النار في نهاية تلك المقتلة وقد طبق حرفيا من جانب واحد، في الوقت التي استمرت فيها إسرائيل تضرب وتنكل بلا كلل؟ منطقيا يفترض أن وضعا كهذا لا يمكن أن يستمر طويلا، لكنه مستمر منذ ما يقترب من عام.
وماذا يريد حزب الله من بقية لبنان؟ التضامن العاطفي والإنساني مع مصابه؟ معاونته على إنكار هزيمته؟ تجميل هذه الهزيمة؟ أو في المقابل المطالبة بسحب سلاح "الحزب"؟ وعندها هل يمكن تمييز هذا الموقف بالفعل من موقف إسرائيل؟ لكن الأهم، من الذي بمستطاعه سحب سلاح الحزب؟ إسرائيل؟ لبنان الآخر؟ أمريكا؟ تغيير موقف إيران من هذا الموضوع؟ هذا دون الإنكار بأنه ليس هناك من إجماع ولا هناك من وضوح كاف لإدراك ما الذي بقي من "حزب الله" بعد عام من الحرب التدميرية وما تبعها من استمرار التدمير "بلا حرب".
لا يسع لبنان الرسمي سحب سلاح الحزب. لكن بوسعه سحب الغطاء عنه. وهذا ما فعله اليوم. وهذا ما ينقسم الرأي حوله. فسحب الغطاء عنه يمكن رؤيته سحبا لساتر معنوي. ويمكن رؤيته في المقابل على أنه على العكس من هذا سحب لصاعق توسيع العمليات الإسرائيلية. لكن الرأي الأول أقرب إلى التصديق. إلا أن إسرائيل وأمريكا تطلبان من لبنان أن يصعّد أكثر بوجه الحزب، وأن «يتكفل» بما استطاع تكفله لأجل تقويض الوجود العسكري والأمني للحزب.
يأتي هذا في ظل مجموعة مكابرات لبنانية. ليس أقلها أن الموقف من إسرائيل والصراع معها بشكل عام والصراع معها بالشكل الذي تتولاه فيه الفصائل الإسلامو- ممانعاتية بشكل أساسي هو موقف يحمل الكثير من الانقسامية التي تعكس انقسامات الواقع الأهلي اللبناني وتزيد عليها تعقيداً. في الوقت نفسه، ما زال الكثير من هذا الانقسام يختبئ تحت يافطتي العداء أو الموالاة لـ"حزب الله". الانقسام حول الحزب ليس نسخة طبق الأصل عن الانقسام حول إسرائيل في المجتمع اللبناني. لكن لا هذا وهم ولا ذاك.
تاريخ الانقسام حول إسرائيل في الواقع اللبناني متعرج، ومتبدّل، ومزاجيّ في الكثير، وتتخلّله نكايات، ونظريات مؤامرة، وولاءات إقليمية متقلبة ومختلطة. لكنه انقسام له تاريخ لا ينفك يتراكم منذ أواخر الأربعينيات. فكرة أن "لبنان هو آخر من يوقع" ما عادت تصلح لمقاربة هذا النوع من التحديات. وحتى لو أنه "آخر من يوقع" فهو منقسم إلى حد كبير بين من يريد له أن "يوقع" وبين من لا يريده أن يوقع أبدا.
في الشهور الأخيرة لوحظ تخفف أكبر من التطرق إلى هذا الموضوع في الإعلام اللبناني، لكن الأمر بدا نافرا في المقابل لأنه مثار في الوقت الذي تحترق غزة، والجنوب اللبناني يتعرض لغارات متواصلة. مع هذا فالأمر يتعلق قبل كل شيء بالمنظار، أي لبنان يراد ترميمه، استصلاحه، إعادة تنشيطه؟ لبنان يستعد مجددا لمواجهة غير متناسبة مع إسرائيل أم لبنان ينجح في الخروج من الصراع العسكري معها؟ هناك من يقول إن لبنان لن ينجح في الخروج من هذا الصراع مهما حاول، وبالتالي الأفضل أن لا يحاول، لكن ليس هناك من يقول على أي أساس هو ينادي بالعودة للمواجهة؟
وإذا ما اقتصر الوضع على الجنوب: ما الذي يراد منه بالتحديد؟ مواجهة حربية غير متوازنة يمكن أن تستثمر فيها إسرائيل للتوسع الترابي؟ أم مناخ سياسي جديد، ولا يبدو هنا أن إسرائيل الحالية تكترث لهكذا مناخات. أساسا ما الذي تريده إسرائيل ليس واضحا من لبنان. ربما كانت لا تريد استمراره في الوجود كبلد شمالها. ربما كانت تريده كبلد بالمستطاع إعادة تركيبه في اتجاه مختلف تماماً عما ساد طيلة حقبة الوصاية السورية وغلبة حزب الله. ربما كانت لا تريد منه شيئا بالتحديد. لا تعتبر أن هناك موضوعا لبنانيا تكترث له وإنما موضوع يقتصر على الإضعاف الشديد لحزب الله. بالحرب التدميرية قبل عام ثم باتفاق وقف إطلاق النار الناري ثم بتكبيل الحزب داخليا ثم بالتجهز لليلة السكاكين الطويلة النهائية ضده.
ليس واضحا ما يريده كل طرف. رغم أن كل طرف لا ينفك يصرح. إسرائيل لا تريد سلاح الحزب. كذا الدول العربية. كذا أمريكا. كذا أخصام الحزب في الداخل. كذا الدولة اللبنانية مؤخرا. من غير الواضح في المقابل ما الفارق بين سحب السلاح كما يطرحه هذا الطرف وسحبه على ما يطرحه ذاك. من غير الواضح ما الذي يراد وضعه محل الفراغ الذي سيتركه السلاح؟ حزب سياسي "ما بعد خميني"؟ إعادة التفاوض على حصص الطوائف اللبنانية في الدولة؟ العودة إلى اتفاق الهدنة؟ فقط الهدنة؟ أكثر منها؟ من الذي يقرر؟ أمريكا أم إسرائيل أم الدول العربية؟ ما هو دور اللبنانيين في التقرير؟ الأرجح أنه دور محدود.
(القدس العربي)