صحافة

الأرض مقابل السلام… لكن بالمقلوب. ينفخ ترامب نتنياهو عسكرياً، ويثقب أميركا سياسياً!

سمير التقي

المشاركة
الأرض مقابل السلام… لكن بالمقلوب. ينفخ ترامب نتنياهو عسكرياً، ويثقب أميركا سياسياً!

وضعت ضربة قطر الإقليم بأسره أمام صورة واضحة للتحول الجاري في إسرائيل وأميركا. وسيكون من الضلال أن نفترض أن الأمر سيتبدّل قريباً. ليس التسيد الإسرائيلي مجرد نزوة من نزوات التطرف الإسرائيلي. بل تعزز أميركا بكليتها، هذا التسيد، ولن تراعي أية اعتبارات أو مظاهر أو حقوق. ولم يعد من الممكن النظر إلى هذا التسيّد على أنه تداعٍ من تداعيات وعِبَر السابع من أكتوبر. فليس تحرير الرهائن، ولا حتى قطع رأس "حماس" أو رأس وقف إطلاق النار، هو الهدف.

تتبلور الفرصة والهدف بالنسبة إلى إسرائيل، ليصبح الهدف بائناً: مزيد من الأرض لإسرائيل، مقابل رضوخ المنطقة بأسرها لسلام التسيّد الإسرائيلي المطلق. إنه السلام الإقليمي الإسرائيلي "Pax Israelica". كان نتنياهو يتحدّث، في الماضي، علناً عمّا لا يريد: لا مفاوضات، لا دولة فلسطينية، لا دولة واحدة. الآن يقول ويفعل علناً، وبغطاء أميركي كاسح: تفريغُ الأرض من أهلها، وترتيباتٌ شكلية مع بعض الدول العربية، إذ لا تحتاج إسرائيل إلى السلام.

استراتيجياً، تراهن إسرائيل على ثلاثة عوامل: أولاً، انفراط كل معايير القانون الدولي. ثانياً أبدية التحالف المطلق مع أميركا. ثالثاً: رضوخ العرب والإقليم لهيمنتها! فبحسب التعبيرات الدارجة لقادة اليمين المتطرف "ليس العرب إلا "رعاعاً أو هواماً "غويم"". ما الذي يعنيه ذلك بالنسبة إلى فلسطين وجوارها؟ يقبر نتنياهو اتفاقات أوسلو نهائياً؛ فباغتيال أوسلو نهائياً يكمل نتنياهو المهمة التي بدأها "عامير" باغتيال رابين. سيفرض حكماً عسكرياً على الضفة والقطاع. وبما أن إسرائيل لن تقبل بمنطق شعبين في دولة واحدة، تصير المهمةُ المباشرة والجوهرية أمام حكومة إسرائيل: التخلص من الفلسطينيين! فكيف التخلص من الفلسطينيين؟ منذ أن فكت المملكة الأردنية ارتباطها بالضفة الغربية، بناءً على مطالبة منظمة التحرير الفلسطينية، صار الفلسطينيون "شعباً بلا دولة"!

وما أدراك عن مصائر الشعوب التي صارت بلا دولة، فلننظر إلى خرائط ومصائر العديد من الشعوب الأوربية إثر الحرب العالمية الأولى. فلقد اختفت في أوروبا وحدها أكثر من عشرين دولة، واضمحل، بل "تبخرت" شعوبها فيزيائياً وثقافياً. وتعامل العالم مع هذه الشعوب على أنها نكرة، ليس بالمعنى القانوني والمؤسساتي، بل بالمعنى الفيزيائي والإنساني أيضاً! وهذا ما يريده نتنياهو مصيراً للشعب الفلسطيني. ما الذي يعنيه هذا بالنسبة إلى جوار إسرائيل؟

في ظل تهافت الشرعية والقانون الدولي وتداعي مؤسساته ومرجعياته، وبغض النظر عن النفاق الديبلوماسي، يصبح التهديد المباشر في المرحلة المقبلة موضوعياً موجّهاً ضد دول الجوار، وبشكل أساسي ضد الأردن، ومعها سوريا ولبنان ومصر. فوحده تداعي الدولة الوطنية في محيط إسرائيل، يتيح مخرجاً للتطفيش القسري للفلسطينيين من الضفة والقطاع. كان إضعاف دول الإقليم التي مضت مع إسرائيل في عملية السلام مع ضبط أمنها واستقرارها من ثوابت السياسة الإسرائيلية السابقة. تغيرت أهداف إسرائيل الآن!

الحكومة الإسرائيلية الباقية طويلاً، رغم كل الأوهام، أصبحت تجد في هذا الاستقرار عائقاً جوهرياً أمام تنفيذ الترانسفير، ليصبح مصير اتفاقات كامب ديفيد ووادي عربة مثل مصير أوسلو. تعمل إسرائيل على تدمير السلطة الفلسطينية في المدى المنظور. وهي تعمل بالتوازي استخبارياً وعملياتياً واقتصادياً على زعزعة دول الجوار وتفكيكها كهدف مباشر. ما الذي سيعنيه ذلك إقليمياً:

لم يعد هذا الجنوح منوطاً بالرئيس ترامب وحده، بل في سياق التحضير لما بعد ترامب... بل في مسخرة منقطعة النظير يتهافت فانس وروبيو علناً، ليس فقط على غزل إسرائيل، وتكريس ضم الضفة والقطاع وتقديم الغطاء الأميركي الكامل لتهجير الفلسطينيين ولمشروع إسرائيل الكبرى. ويعني ذلك انهيار التحالفات الاستراتيجية الأميركية الإقليمية. نهاية الأمر، لم يكن قصف نتنياهو لقطر ضربة موجهة لقطر فحسب، بل ولمجمل التحالفات الأميركية المحتملة التي لا تمر بالتسيد الإسرائيلي. لا تريد إسرائيل أن يكون ثمة تحالف لأميركا في الإقليم إلا عبر هيمنتها. وهكذا تريد الإدارة الراهنة.

عند آخر تحليل كانت ضربة قطر بوضوح كامل ضربة قاضية لأي تحالف أميركي مع أي دور عربي مستقبلي في الإقليم لا في غزة فحسب، بل وفي لبنان وسوريا والعراق أيضاً. وأبعد من ذلك إن ضربة قطر ضربة قاضية لمجمل محاولات الرئيس ترامب لبناء استراتيجية بديلة تستند لمخرجات وتوافقات زيارته للمملكة العربية السعودية ودولة الإمارات وقطر. فلقد شد نتنياهو حباله على عنق الإدارة الراهنة، وأغلق الأبواب التي حاول ترامب فتحها لتأسيس استراتيجية أميركية جديدة في الإقليم، تكون موازية للتحالف الأبدي مع إسرائيل.

أصبح نتنياهو يعتقد -ويعمل بشكل مطلق- أنه حصل من الرئيس ترامب على تفويض بالتفرد الكامل بشؤون الإقليم، ولم تعد الديبلوماسية الأميركية تحاول حتى إخفاء هذا التفويض الإقليمي. لذلك تجد أوساط إسرائيلية متطرفة في المملكة العربية السعودية خصمها الإقليمي الرئيسي. ما الذي يعنيه ذلك إستراتيجياً؟

يعني أن إسرائيل تعمل على استكمال ما لم يُستكمل، لتشعل الإقليم على صفيح حامٍ... ومن هنا أيضاً هذه الاستماتة والاستعجال الإسرائيلي في ضم الضفة والقطاع. لكنه يعني أيضاً أن تتحول المنطقة لساحة منافسة دامية مفتوحة! في هذه اللحظة بالذات، تتبلور الأهمية الاستثنائية للحملة التي تقودها المملكة العربية السعودية بالمشاركة مع فرنسا من أجل الاعتراف بالدولة الفلسطينية وتكريس حل الدولتين. فذاك وحده يؤمن المخرج من مأزق شعب بلا دولة!

وليس أدل على ذلك ما لخصه نتنياهو عملياً من أنهم يهددونا بحل الدولتين، ونحن سنغير الواقع على الأرض، لتصبح حدود إسرائيل من البحر إلى النهر. وليفعل العرب والعالم ما يشاء! وبغض النظر عن العامل الفلسطيني تصير مواجهة هذا التسيد الإسرائيلي، المهمة الوطنية الأولى لدول الإقليم. وفي عالم متعدد الأقطاب يصبح تبدل البنيان الاستراتيجي للشرق الأوسط أمراً محتماً. بل، من جديد، ورداً على هذه السياسة ستتجه كل دولة قادرة في الإقليم حتماً من أجل استرداد ردعها القومي بشتى أنماط الردع الممكنة. الردع التقليدي وغير التقليدي. وسرى ملامح ذلك قريباً.

في تفسير خسارة حرب فيتنام، يقول الاستراتيجي هنري كيسنجر: "خضنا حرباً عسكريةً فيما خاض خصومنا صراعاً سياسياً. سعينا إلى الاستنزاف الجسدي، بينما أرهقَنا خصومنا نفسياً. وبذلك فقدنا أحد المبادئ الأساسية لحرب العصابات: المتمرّد ينتصر ما لم يُهزَم نهائياً، أمّا الجيش التقليدي فيخسر إن لم ينتصر". لكن نتنياهو لم يعد يقرأ إلا جابوتنسكي ووالده المؤرخ. رغم أن في تاريخ المنطقة وتاريخ شعب إسرائيل الكثير من العبر التي لا يريد أن يراها.

(النهار اللبنانية)

يتم التصفح الآن