يتسيّد الفساد الدولة المنقسمة التي تصرف غالبية مواردها، كميزانيات وراوتب للمُمسكين بعنق القرارين الأمني العسكري والسياسي، فيُحكموا قبضتهم على السلطة بشتى الوسائل، من "تأجير المرافئ كقواعد"، و"توطين المهاجرين"، إلى "التطبيع مع إسرائيل" ليتقرّبوا إلى الغرب زُلفى.
وسط هذه الرثاثة، تلاقحت نوازع رئيس الحكومة الليبية عبد الحميد دبيبة السلطوية، مع تخصّصات وزيرة خارجيته نجلاء المنقوش الجامعية فانصرفت لتطبيق أطروحاتها النظرية "الإنتقال من الحرب إلى السلم"، ميدانيًا. وانصرف دبيبة، لكسر الحاجز النفسي لليبيين تجاه "التطبيع مع إسرائيل"، قبل لقاء التتويج، الذي كان سيجمعه ونتنياهو.
أيقظ "لقاء روما" كلّ عناصر الولاء لفلسطين بين الليبيين الذين قاتل آباؤهم وأجدادهم لتحريرها منذ 1948
تحمّل الليبيون مكرهين تداعيات وآثار عدوان الناتو، ونتائج حروب الميليشيات المتناسلة، قتلًا وسجنًا وتهجيرًا داخل ليبيا وخارجها، وأصيب غالبيتهم بالعوز، وافتقدوا وقود السيارات، والكهرباء والأدوية والطبابة، و.. الكرامة، التي شعروا بامتهانها جرّاء لقاء المنقوش بنظيرها الإسرائيلي إيلي كوهين. وثمّة جرح عميق أصابهم، فأخرجهم بعفوية غاضبين. الشرارة الأولى كانت الزاوية ثم صبراتة، وصرمان، والعجيلات، وطرابلس، وترهونة، والقربوللي، وبني وليد، والخمس، وزليتن ومصراتة وسرت وغيرها. مظاهرات غاضبة كانت محلّ رصد متعدّد بالميكروسكوبات والكاميرات التي وثّقت النيران تلتهم منازل رئيس الحكومة وبعض أعوانه.
تطبيع دفعهم لاستذكار، "ضحك" إعلام الناتو وملحقاته عليهم، عندما سوّقوا بروباغندا مضلّلة عن "يهودية" القذّافي. وبمرارة ساخرة راح بعض خصوم القذّافي ينشرون فيديو شهير للفرنسي الصهيوني برنارد ليفي يقول فيه: "كانوا يشتمون القذّافي أمامي، ويصفونه بـ"ابن اليهودية"، ويعلمون أني اليهودي الوحيد بينهم".
اليوم يتساءل ليبيون كثر، ألهذه "اللحظة التطبيعية التاريخية" شنّ حلف الناتو عدوانه على ليبيا، متذرّعًا بالقرار 1973 لـ"حماية المدنيين"، دون حمايتهم رغم مرور 12 عاماً؟.
بغفلة مثيرة، أيقظ لقاء روما كلّ عناصر الولاء لفلسطين بين الليبيين، سيّما الذين قاتل آباؤهم وأجدادهم لتحريرها منذ 1948 مرورًا بالعدوان الاسرئيلي على لبنان 1978، وانتهاءً بما بعد اجتياح بيروت 1982. بعضهم استشهد خلال الذود عن فلسطين والقدس، وبعضهم وقع أسيرًا، وأفرج عنهم في عمليات "التبادل"، وتاريخ هؤلاء الآباء والأجداد ورفاتهم، هو الذخيرة الحيّة التي يفاخر بها أحفادهم، فانفجروا غضبًا وهم يرونها بأمّ أعينهم تُهان.
دبيبة المعروف بقدراته الامتصاصية، تدرّج تحت ضغط الشارع في امتصاص غضب الليبيين، من إقراره بعض الزيادات المالية، الى إيقاف المنقوش عن العمل، ثمّ زيارته سفارة فلسطين والتوشّح بعلمها، وإقالتها وإحالتها للتحقيق.
وتردّد أنّه وحكومته كانوا متحسّبين لردّة الفعل الشعبية. لكنهم فوجئوا بقوّتها، وتنوّع مشاربها وانتشارها. فكانت صادمة ليس لدبيبة و"إسرائيل" وأمريكا فحسب، وإنّما لكل العرب الراصدين للغضب الليبي، خصوصًا في غزّة التي تظاهرت وبعض المخيمات شكرًا ودعمًا لمظاهرات ليبيا، وكانت بحجم فضيحة المنقوش التي تبرّأ منها موظفوها ميدانيًا، ما دفع دبيبة لترهيبهم بإيقاف وكيل الخارجية عمر كتّي عن عمله.
تموضع المنقوش في حواضن تركيا أغضب مصر
إيقاف المنقوش عن العمل هو الثالث. فالأول، إثر مطالبتها "بانسحاب القوات التركية والمرتزقة من ليبيا" خلال لقائها نظيرها التركي عام 2021، ويومها تعرّض فندق كورونتيا حيث تقيم والمجلس الرئاسي لاجتياح الميليشيات الموالية لتركيا. والثاني، بسبب ما عدّه "المجلس الرئاسي" انفرادها بـ"السياسة الخارجية" ربطًا بإعلانها "استعداد الحكومة للتعاون مع واشنطن فيما يتعلّق بترحيل ليبي متّهم بصنع القنبلة التي استُخدمت لتفجير طائرة أمريكية فوق لوكربي". وفعلًا تمّ تسليم "أبو عجيلة مسعود المريمي" ونقله الى أمريكا، وسط غضب متنامٍ تجاه تلاعب حكومة دبيبة بملف جرى إغلاقه وتسوية مندرجاته مع واشنطن.
بعد تصريحاتها المتكرّرة "بانسحاب القوات التركية والمرتزقة"، استدارت المنقوش التي وُزّرت كممثّلة لشرق ليبيا وخليفة حفتر، لتتموضع في حواضن تركيا التي أمّنت مغادرتها طرابلس بعد افتضاح لقاء روما. تموضع أغضب مصر وعُبّر عنه بانسحاب وزير خارجيتها سامح شكري من اجتماعات الجامعة العربية أثناء ترؤس المنقوش لها، أو إلقائها كلمة. انسحاب لم يحصل في الاجتماع الأخير للجامعة، ومثّل ليبيا فيه وزير الاقتصاد والتجارة محمد الحويج، ما أوضح بأنّ موقف مصر من المنقوش، مرتبط بـ"لغز" انقلابها لصالح تركيا.
الجمعة 1 أيلول، كان مقرّرًا إنطلاق مظاهرة دعمًا لفلسطين بطرابلس، فتوّجس منها دبيبة والميليشيات لتزامنها مع ذكرى "ثورة الفاتح من سبتمبر"، فقابلوها بالتهديد والوعيد وانتشار مسلّح كثيف، ومنعوها. وللهدف عينه، انصرفت كتائب حفتر تنكيلًا بأبناء قبيلة القذاذفة، واعتقال وهدم منازل بعضهم في سرت وجوارها، بالتوازي مع صمت مطبق للجيش الليبي وقائده حفتر تجاه فَعلةِ المنقوش، الذي عزاه البعض لاجتماع حفتر وأحد أبنائه مع "الموساد" في عمّان، رغم نفيهم الخجول لذلك.
توازيًا مع ردّة الفعل المفاجئة، انصرف دبيبة لتفحّص جاهزية قواته وميليشياتها في طرابلس، وأيضًا في مسقطه مصراته التي أعلن "مجلسها العسكري" رفضه للتطبيع، والعمل لإسقاط الحكومة، التي يجهد رئيسها للملمة تداعيات الفضيحة وسحبها من مصراته، كاختطاف الإعلامي عبدالمالك المدني، لإنتقاده "التطبيع مع إسرائيل".
وفي سياق مسار التطبيع التراكمي منذ 2011، تزامنًا مع التحضير لإسقاط القذّافي وتوّج بلقاء روما. صرّح رافائيل لوزون رئيس اتحاد يهود ليبيا بزيارة "شخصيات إسرائيلية" لطرابلس، وبضغوط تشجيعية لمدير المخابرات الأمريكية وليام بيرنز، وبحسب وزارة الخارجية الإيطالية عرّابة اللقاء، فضلاً عن كوهين نفسه.. فلقاء روما حصل بموافقة دبيبة، الذي سبق والتقى "الموساد" في الأردن بمعرفة ومشاركة سفيره فيها عبد الباسط البدري.
التطبيع ليس شأنًا إسرائيليًا خالصًا، بل شأن أمريكي خاص تجهد كل إدارة لكتابة فصل فيه
في سياق موازٍ، سبق لحكومة دبيبة العمل لتحصين وضعها الإقليمي. فبعد سريان الإتفاق السعودي الإيراني برعاية الصين، كان لافتًا قيام المنقوش بزيارة لطهران.. ظاهرها، تفعيل السفارات والعلاقات الثنائية، وباطنها، تحييد إيران الإستباقي عن تطبيعها اللاحق. فيما استراتيجية طهران تستبطن الولوج على خطى "فاغنر" الى دول الساحل ومناجم اليورانيوم معزّزة ببعض أعضاء الحركات "البنافريقانية" في مالي الذين أوقف منهم مؤخرًا "آدم بن جارا" بسبب زيارتهم إيران و"حزب الله" في لبنان، تزامنًا مع هجوم لتنظيم "القاعدة" أوقع نحو 50 قتيلًا من الجيش المالي و"فاغنر".
مقاومة التطبيع الليبية، أضرّت بجهود أمريكية وغربية وعربية في غير بلد، وتسبّبت بغضب إدارة بايدن من حكومة "إسرائيل" التي تعاطت مع ليبيا كسبق صحفي. سبب الغضب البايدني، أنّ التطبيع ليس شأنًا إسرائيليًا خالصًا، بل شأن أمريكي خاص، تجهد كل إدارة لكتابة فصل فيه، ليسجّل ضمن إنجازاتها، فيتم تسييلها أصواتًا في الانتخابات. وهذا ما كان يعتقده بايدن بأن يخوض الانتخابات مسلّحًا بإنجاز "التطبيع بين إسرائيل والسعودية". رغم أنّ "اتفاقات ابراهام" لصاحبها دونالد ترامب لم تؤمّن فوزه، أو تمنع محاكمته.
ما شهدته ليبيا أعطب بعض عجلات قطار التطبيع الذي بات يشكّل تحديًا جديًا أمام الشباب العربي
لعلّ أهمّ التداعيات الليبية المناهضة للتطبيع، رفض السعودية دعوة وزيري الخارجية والتعليم الإسرائيليين، إيلي كوهين ويوآف كيش، اللذين كانا ينويان المشاركة في "مؤتمر التراث العالمي" لليونسكو، التي اتفقت مديرتها أودري أزولاي مع السعودية على تسهيل وصول وفود الدول وضمنًا "إسرائيل" التي استجابت لطلب واشنطن بسحب دعوة وزيريها، والإبقاء على الوفد التقني، تخفيفًا لوقع الرفض السعودي.
أخيرًا، ورغم افتتاح "السفارة الإسرائيلية" في البحرين، يبقى أنّ ما شهدته ليبيا أعطب بعض عجلات قطار التطبيع، الذي بات يشكّل تحديًا جديًا أمام الشباب العربي.
(خاص "عروبة 22")