المصير الأول، الذي يتوقع استسلام المقاومة في غزّة وإلقاء سلاحها والتخلّي عن خيار المقاومة والخروج التامّ من المشهد في المستقبل الفلسطيني حتّى كطرف سياسي، هو مصير غير مرجّح واحتمالات حدوثه تكاد تكون صفرًا.
إيديولوجيًّا، المقاومة معلّقة بين إصبعيْن هما النصر أو الشهادة، لكن هذا ليس السبب الوحيد، فحركة "حماس" حافظت على قدرٍ من الاستقلالية عن الجميع حتى عن أقرب حلفائها مثل قطر وتركيا وإيران. الوضع الميداني أيضًا يدعم قدرة "حماس" على رفض الاستسلام، فهي وإن كانت قد فقدت الكثير من مقاتليها إلّا أنّها أعادت بناء قوتها البشرية عبر التجنيد الواسع. وقالت مصادر لكاتب هذه السطور إنّ "حماس" ما زال لها مقاتلون يتراوح عددهم ما بين 20 و22 ألف مقاتل.
الاستسلام يُساوي الموت بالعار بينما الحرب حتى آخر رجل تساوي الموت بشرف
حتى احتلال مدينة غزّة يمثل فرصةً أكبر للمقاومة لممارسة حرب العصابات الحضرية التي عادةً ما يخسرها أي جيش نظامي. الخسائر الفادحة في جنود الاحتلال التي حقّقها انتقال المقاومة لحرب المجموعات الصغيرة التي تعرف أحياءها وتقرّر عمليات التفخيخ والكمائن والاشتباك المباشر بشكلٍ محلّي، من دون الرجوع إلى المركز، هي أيضًا عامل سيدعم اتجاه "حماس" لرفض الاستسلام. الأهم من ذلك هو أنّ ما يُعرض على "حماس" في الحالتَيْن هو الموت، ولكن الاستسلام يُساوي الموت بالعار، بينما الحرب حتى آخر رجل تساوي الموت بشرف.
المصير الثاني، هو تهجير أكبر عدد ممكن من سكان غزّة إلى مصر عبر احتلال المدينة ورفع وتيرة القتل والتدمير. هذا المصير هو الهدف الرئيسي لإسرائيل وبات كذلك لواشنطن، بعد خطة ترامب لتفريغ غزّة وبناء "ريفييرا" عقارية على طريقة دبي.
الخذلان العربي - الدولي في حرب الإبادة لنحو عامَيْن، سمح للاحتلال بجعل شمال القطاع وأجزاء أخرى مكانًا غير صالحٍ للحياة، وهي الحالة التي لا يجد فيها جزء من السكان خيارًا أمامه سوى الفرار. هذا المصير في أي تقدير موقف هو خيار وارد باحتمالات واقعية كبيرة، بخاصة بعد عملية احتلال مدينة غزّة، لكن ما يجعل مصير التهجير لو حدث محصورًا في جزء من السكان هو صمود فلسطينيي غزّة وتشبّثهم بأرضهم وكلفة التهجير ومعاناة النزوح ماليًا وبشريًا من مكان لآخر ذهابًا وعودةً شمالًا وجنوبًا في عامَي الحرب.
حديث عن قبول جزئي بتهجير فلسطينيين إلى مصر ضمن سيناريو استيعاب انتقالي أو طبّي مشروط بعودتهم
المصير الثالث، هو احتمال انتهاء حالة السلام بين مصر وإسرائيل وتوافر بيئة لقيام حرب بينهما لأول مرّة منذ حرب 1973 إذا نفّذت إسرائيل مخطّطها للتطهير العرقي بإكراه الغزّاويين على التهجير القسري إلى سيناء المصرية. هذا الخيار يبدو محدود الاحتمال جدًا وتوجد مؤشرات إلى أنّ مصر تفضّل تفاديه ما وسعها الأمر، وقد تلجأ للتعايش مع بدائل أخرى بدأ البعض ومنهم فلسطينيون قريبون من رام الله، في طرحها تتضمّن قبولًا جزئيًا بتهجير فلسطينيين.
البعض يتحدّث عمّا يسمّيه سيناريو الاستيعاب الانتقالي، أي الاستيعاب المشروط بحصول مصر على ضمانات بعودة هؤلاء إلى القطاع بعد انتهاء الحرب. والبعض الآخر يتحدّث عن سيناريو الاستيعاب الطبّي، ومعناه أنّ هناك عشرات الآلاف من الجرحى أو المرضى يحتاجون بشدّة إلى العلاج فتقوم مصر في هذا السيناريو بالسماح لهم بالقدوم من القطاع إلى مصر ومعهم مرافق أو اثنين من عائلتهم، على أن يعود الجميع عندما تستقرّ أحوال القطاع.
وستعمل واشنطن على منع مواجهة مصرية - إسرائيلية تهدم كل ما بنته الولايات المتحدة من هيمنة على العالم العربي. فخروج مصر من الصراع كان وما زال حجر أساس النظام الأميركي للإقليم، وهو سينهار وينقلب لوضع جيوسياسي نقيض ومعادٍ تمامًا لمصالحها، إذا عادت مصر وإسرائيل إلى الحرب مرة أخرى. فالبلَدان يخشيان الحرب؛ إسرائيل لأنّ فتح جبهة كبيرة مع الجبهة المصرية، وجيشها مُستنزف في غزّة وجهده موزّع بين مواجهات في لبنان وسوريا واليمن وحتّى إيران، ليس الخيار الأمثل.
تأمل النخبة السياسية في مصر أن يتمكّن رفع مستوى الحدّة في الخطاب السياسي من ردع إسرائيل
في مصر لا تبدو النّخب الثلاث المؤثرة في صنع القرار متشجّعةً لخوض حربٍ وإنهاء مزايا حالة الاسترخاء الممتدّة منذ 52 عامًا.
النخبة الاقتصادية هي نخبة جعل المركز الرأسمالي العالمي واضحًا لديها، أنّ السماح لها بمراكمة ثروات مُخيفة وترك باقي الشعب في الفقر، هو أمر مرهون باستمرار حالة السلام مع إسرائيل وعدم التفكير في الحرب.
النخبة السياسية التي تُعبّر عن مصالح النخبة الاقتصادية هي الوريثة الأمينة لـ"عقيدة السادات" أنّ "حرب أكتوبر هي آخر الحروب، وأنّ خيار السلام لا رجعة فيه، وأنّ معاهدة السلام مع إسرائيل هي نقطة ارتكاز الأمن المصري، بل وأمن الإقليم كلّه". تأمل هذه النخبة أن يتمكّن رفع مستوى الحدّة في الخطاب السياسي مع ممارسة محسوبة للديبلوماسية الخشنة مؤخّرًا تجاه إسرائيل، والإيحاء بأنّ معاهدة السلام قد تتقوّض، قد يردع إسرائيل في النهاية عن تنفيذ مخطّط التهجير إلى أراضي مصر أو التحرّش العسكري بها، فيكفي الله وقتها المؤمنين شرّ القتال!.
النخبة العسكرية تبدو في صيغة الموقف المُتحفّظ من الحرب
النخبة الإعلامية كانت أكثر شراسةً في الهجوم المُركّز على خيار الحرب وتيئيس المصريين من أي احتمال للفوز فيها إذا تمّ خوضها. مدفعية ثقيلة تمّ تصويبها على عقول الرأي العام من منصّات هذه النخبة في الأيام الماضية، نشرت جناحَيْها كغراب أسود أنذر المصريين بأنّه إذا حدثت الحرب سيكون حصادهم منها إمّا هزيمة عسكرية، وإمّا انهيار اقتصادي، أو كلاهما معا.
أمّا النخبة العسكرية، فلا شكّ أنها ستنفّذ القرار السياسي سلمًا أو حربًا. لكنّها من ناحية الإحاطة تبدو ما زالت في صيغة الموقف المُتحفّظ من الحرب، كما عبّر عن ذلك رئيس هيئة التدريب في القوات المسلحة اللواء شريف العرايشي، أثناء مناورات النجم الساطع الأخيرة، إذ قال: "تنتمي مصر لمنطقة جغرافية شديدة الحساسيّة والاضطراب ونحن لا نسمح لأنفسنا بالانخراط في النزاعات والصراعات، ونمثّل خط الحكمة الذي يحتكم للعقل والهدوء، إلّا أنّ هذا التوجّه لا يمكن أن يقف حائلًا دون امتلاك القوة القادرة على الردع، والتي تسعى إلى تحقيق السلام".
(خاص "عروبة 22")