تحتفي الجمعية العامة للأمم المتحدة هذه الأيام بدورتها الثمانين هي عمر النظام الدولي القائم، الذي وهنت قواه ولم يعد قادراً على الاستجابة للاستحقاقات الراهنة، ولا حل القضايا المزمنة ولا تحقيق العدالة، ولذلك وجب إصلاحه أو تغييره، بما يمنح التعايش الدولي قيمة وللمستقبل معنى ويستعيد مصداقية المؤسسات والقوانين والمعاهدات، بعدما ضلت بعيداً خصوصاً في السنوات القليلة الماضية.
الوعي بأن الوضع العالمي الحالي لم يعد مسموحاً له أن يستمر، واضح في المواقف والمبادرات العديدة التي تنادي تارة بإصلاح الأمم المتحدة وأجهزتها الرئيسية خصوصاً مجلس الأمن، وطوراً ببناء نظام دولي جديد يكون أكثر تعددية وعدالة ويسمح بتجاوز الأحادية القطبية التي بدأت مؤشرات سقوطها تتوالى مع استفحال غياب الثقة في القانون الدولي، وربما ستؤرخ الدورة الحالية للجمعية العامة بداية لمرحلة جديدة يمكن أن يستعيد فيها العالم وعيه وضميره، وقد تكون الاعترافات المزلزلة لبعض القوى الوازنة بالدولة الفلسطينية إشارة واضحة بأن هناك عزيمة تتبلور للتصدي لمحاولات إشاعة الفوضى واستفحال الشعبوية والتطرف.
وعبّرت عن هذا التوجه كلمات عدد من زعماء العالم والشخصيات مثل الأمين العام للمنظمة الدولية أنطونيو غوتيريش الذي حذر من الدخول في عصر التفتت الطائش ومن انهيار ركائز السلام الدولي. أما الرئيس الأمريكي دونالد ترامب فكان خطابه يدور في فلك آخر، وبدأه بالسخرية والتهجم على المنظمة التي استضافته، وتحدث عن إنجازاته بإنهاء سبعة حروب، ربما لا يعرفها إلا هو، بينما لم يشأ أن يمارس نفوذه لوقف المذبحة في غزة، وعجز تماماً عن إخماد الحرب في أوكرانيا.
أكثر من زعيم عالمي أكد، أمام الجمعية العامة، أن هذه المرحلة التاريخية في العالم تتسم بالفوضى وغياب الرؤية، وقد تكون أبسط معالم هذه الفوضى الانقطاعات المتكررة في ميكروفون الأمم المتحدة، وهي ظاهرة نادرة الحدوث، تواترت هذه المرة عندما تحدث بعض الزعماء عن الجرائم الإسرائيلية في غزة، فضلاً عن توقف موكب الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون في شارع مزدحم بنيويورك لأن موكب ترامب قطعه، وهذه ليست صدفة على الأرجح، بل مؤشر على ضياع البوصلة في مدينة تصبح عاصمة للقادة في كل سبتمبر من كل عام. ودلالة ذلك أن هناك مشكلة بنيوية عميقة تضرب أسس العالم، وهي طبيعية في مثل هذا الظرف الذي يشهد تحولات متسارعة وجذرية.
قبل نحو قرن قال الفيلسوف الإيطالي الشهير أنطونيو غرامشي إنه عندما يموت العالم القديم ويصبح العالم الجديد بصدد الولادة يكون الزمن الانتقالي بين العالمين وقت التوحش والتطرف، وهذا بالفعل ما يطبع هذه المرحلة وما تشهده من تجرُّؤ بعض الأطراف على القيم والمعاهدات والمواثيق والاستخفاف بالقانون الدولي، بل وانتهاكه دون خشية من محاسبة، كما تفعل إسرائيل صباح مساء في غزة والأراضي المحتلة ودول المنطقة، دون أن تدري أنها علقت في مأزق وجودي وباتت تقاتل على حافة الهاوية، وقد تكون خاتمة هذه المعركة بداية نظام دولي جديد يحاول التخلص من العار السابق.
ولذلك تبدو كل الأطراف تتغير شرقاً وغرباً وتدافع عن التغيير، وفي هذا السياق وحده يمكن فهم سباق الدول الغربية الكبرى للاعتراف بالدولة الفلسطينية وعزل إسرائيل، ليس إنصافاً للقضية ورفضاً للظلم والاحتلال والإبادة فحسب، وإنما ضرورة تفرضها مقتضيات النظام الدولي الذي بدأ يتشكل كأي حتمية تاريخية.
(الخليج الإماراتية)