تصريح نتنياهو بأنّ كلّ مَن يحمل هاتفًا خليويًا، يحمل قطعةً من إسرائيل، لا يعكس تفاخر الرجل بالريادة التكنولوجية التي بلغتها بلاده، بل يعكس القدرة التي باتت لإسرائيل على توظيف التكنولوجيا الخليوية في مشاريعها العسكرية والأمنية، وعلى تحويل المستجدّات التكنولوجية الفائقة إلى أداةٍ لاستهداف الخصوم مباشرةً، أو ترجمة أهدافها في التوسّع والهيمنة على المَدَيَيْن المتوسط والبعيد.
تحشو إسرائيل برمجيّاتها بمكوّنات مجهرية تجعلها مكمن تحكّم عن بُعد ومصدر معلومات عن كل مَن يقتنيها
إسرائيل ليست قطبًا عالميًا في تصنيع الهواتف النقّالة المتطوّرة، إذ للولايات المتحدة الأميركية والصين وكوريا الجنوبية، مكانة السبق في ذلك. لكنّها تسهم بقوة، وعبر شبكة شراكاتٍ واسعةٍ، في تطوير التقنيّات الرّخوة التي تُستخدم في هذه الأجهزة، وفي مختلف بلدان العالم، مثل الشرائح الإلكترونية والاتصالات المتقدّمة والبرمجيّات المتطوّرة والتطبيقات الذكية، وضمنها قطعًا برمجيّات وتطبيقات الأمن السيبراني والذكاء الاصطناعي بمختلف تفرّعاته.
لا تهتمّ إسرائيل كثيرًا بمَن يُصمّم ويُصنّع ويُسوّق. يكفيها أنّها تضع "لمستها" قبل كلّ هذه المراحل مجتمعة، فتزرع مفاتيح لها في قلب برمجيّاتها، وتحشوها بمكوّنات مجهرية، تجعلها مكمن تحكّم عن بُعد ومصدر معلومات عن كلّ مَن يقتنيها ويستعملها.
ثم إنّ إسرائيل لا تتعامل مع هذه الأجهزة، ولا مع البرمجيّات التي تحكمها أو التطبيقات المترتّبة عنها، من باب كونها مصدر تنافسية تكنولوجية أو تجارية. إنّها تتعامل معها من منظور عسكري واستخباراتي خالص، وباعتبارها مصدر معلومات ثمين لا مندوحة عنه. فالوحدة "8200" مثلًا، أو الشركات الأمنية مثل "إن.إس.أو" (NSO Group)، تلجأ إلى برمجيّات التجسّس "بيغاسوس"، فتستخرج من الهواتف الموضوعة تحت ناظرها، كلّ البيانات المُضمّنة فيها، رسائل وصوت وصورة وفيديو، مع القدرة على تحديد مواقع أصحابها وتنقّلاتهم في الزمان والمكان. نقطة قوة الهواتف النقّالة تكمن هنا، في كونها منصّة متقدّمة، تُستخدم بنيتها التحتية وبياناتها في رصد حركة الأفراد وتتبّع تفاعلاتهم وتحديد مواقعهم الجغرافية.
تكنولوجيا التعرّف إلى الشخصية من خلال الصورة تمّ تطويرها في قسم تابع لشركة "آبل" في شمال تل أبيب
ليس بالضرورة إذن أن يكون الجهاز إفرازًا مباشرًا للصناعة الإسرائيلية. يكفي أنّه يتضمن المفاتيح والشفرات التي تُمكّن من جمع البيانات بغرض التجسّس التقليدي المباشر، أو بغرض التوظيف في التخطيط العسكري الميداني والعمليات الأمنية. لا حاجة هنا للتذكير بحادثة "البيجر" في لبنان، على الرَّغم من كونها لم تكن تقتني الشبكات الخليوية. ولا التذكير بقدرة هذه التكنولوجيا على تحديد مواقع قادة حزب الله قبل تصفيتهم. ولا التوقّف من جديد عند كيفية اغتيال صالح العاروري واسماعيل هنية، بعدما طالتهما الصواريخ الإسرائيلية من حيث لم يحتسبا.
في الآن ذاته، لم يعد سرًّا أنّ عددًا كبيرًا من القادة وعلماء الذرّة الإيرانيين، قد تمّ اغتيالهم بعدما تمّ تحديد موقعهم عبر هواتفهم الشخصية أو هواتف عائلاتهم ومرافقيهم. بالطريقة ذاتها، تمّ تحديد موقع اجتماع قادة "حماس" في قطر من خلال هواتفهم وهواتف مساعديهم، أو عبر استخدامهم لتطبيقات يُشاع أنّها بُرمجت في إسرائيل بشراكةٍ مع الشركات الأميركية والأوروبية الكبرى.
إنّ التكنولوجيا التي تمّ تزويد جهاز "أيفون إكس" بها، للتعرّف إلى الشخصية من خلال الصورة، مع الاستغناء عن الزرّ الرئيسي لفتح الجهاز، قد تمّ تطويرها في قسمٍ تابعٍ لشركة "آبل"، يعمل فيه حوالى ألف مهندس متخصّص في مقرّها في حيفا وهرتسليا شمال تل أبيب.
كلّنا رهائن إذن لدى إسرائيل بهذا الشكل أو ذاك. إنّنا بامتلاكنا لهذه الأجهزة وبتفاعلات بعضنا مع بعض، إنّما نقدم لإسرائيل كلّ بياناتنا ومعطياتنا ومسار حلّنا وترحالنا. لها أن تقرّر بالبناء عليه، ما تضمره لنا من مصير.
بتنا مكمن اختراق كبير بهواتفنا النقّالة وسياراتنا الذكية ومنظومات دفاعاتنا الأمنية والعسكرية
لو وسّعنا الطرح للتكنولوجيا العسكرية الخالصة، لاتّضحت الصورة أكثر. إذ كلّ المنظومات العسكرية العربية، بما فيها منظومات الدفاع الجوي، قد تكون ملغّمةً بمفاتيح وشيفرات، تجعلها عاجزةً عن استخدام كل وظائفها التقنية. ولعلّ عجز منظومة الدفاع الجوية القطرية عن رصد الصواريخ الإسرائيلية التي استهدفت الدوحة مؤخّرًا مصدره تقني، أم أنّ نظام "باتريوت" الأميركي مُبرمج من المصدر بطريقةٍ تحدّ من فاعليته أمام أهداف مُحدّدة، أم تُرى أنّ هذه الأنظمة مزوّدة بآليات تحكّم عن بعد، تمنح القدرة للجهة المُصنّعة على تعطيلها بوجه أهداف معينة؟!.
هي احتمالاتٌ، لكنها تصب مجتمعةً في حقيقة أنّنا، بهواتفنا النقّالة وسياراتنا الذكية، ومنظومات دفاعاتنا الأمنية والعسكرية، إنّما بتنا مكمن اختراقٍ كبير. "عراؤنا" التكنولوجي بات صارخًا، في زمن السلم كما في زمن الحرب سواء بسواء.
(خاص "عروبة 22")