يمثل الاتفاق الدفاعي بين السعودية وباكستان، الموقّع في 17 سبتمبر (أيلول) المنصرم، خطوة نوعية في مسار التعاون الأمني الإقليمي، وقد يُفضي إلى تحولات استراتيجية تُعيد رسم ملامح الترتيبات الأمنية في الشرق الأوسط، وفي القلب منه منطقة الخليج العربي، وجنوب آسيا. فقد يُفضي الاتفاق السعودي- الباكستاني إلى تغيير موازين القوى في الشرق الأوسط، وربما التمهيد لإعادة هيكلة البنية الأمنية القديمة في الإقليم المرتكزة على الولايات المتحدة. فلأول وهلة، يسعى حليف قديم للولايات المتحدة في المنطقة للابتعاد عنها، ويلجأ إلى قوة عسكرية إقليمية، ترتبط بتحالف مع الصين، لضمان أمنه القومي.
وهكذا، يُقوي الاتفاق مكانة السعودية كقوة مؤثرة في التوازنات الإقليمية. ومع ذلك، من غير المرجح أن يحل الاتفاق مع باكستان محل الوجود الأمريكي في المنطقة. ولكن من المرجح أنْ تُشكل الخطوة السعودية عقبة لخطط تقودها الولايات المتحدة لدمج إسرائيل في شراكة أمنية شرق أوسطية لاحتواء إيران.علاوة على ذلك، يُفرمل الاتفاق التطبيع الخليجي– الإسرائيلي، أو يعيد تشكيل شروطه. وبصفةٍ عامة، من غير المرجح أن تتعمق العلاقات الدبلوماسية أو الأمنية بين دول الخليج وإسرائيل على المدى المتوسط بسبب زيادة مشاعر معاداة إسرائيل، وتزايد الحذر من التهديدات الإقليمية التي تمثلها.
يُعزز الاتفاق الاعتماد الاستراتيجي المتبادل بين منطقتي الخليج وجنوب آسيا، إذ إنه يضيف فاعلاً أمنياً جديداً، هو باكستان، الدولة النووية الوحيدة ذات الأغلبية المسلمة، إلى معادلة أمن الخليج المتغيرة. كما أنّ من شأن الاتفاق أن يُعزز الحضور السعودي في إقليم جنوب آسيا، بما يتضمنه من توترات باكستان الحدودية مع الهند وإيران، وصولاً إلى أفغانستان. وقد يفتح الترابط بين إقليمي الخليج العربي وجنوبي آسيا آفاقاً أوسع للفاعلين الإقليميين للتنسيق في مواجهة التحديات الأمنية المشتركة، ولاسيما تلك العابرة للحدود. كما قد يُسهم في بناء أرضية صلبة لتعاون إقليمي طويل المدى يركز على الاستقرار، ومكافحة التطرف، ودعم القدرات الدفاعية المشتركة.
ومع ذلك، قد يأتي الاتفاق الدفاعي المشترك بين السعودية وباكستان، واتفاقات أخرى محتملة بين دول مجلس التعاون الخليجي والدول الإقليمية والكبرى، على حساب إعادة تفعيل آليات هيكل الدفاع الخليجي المشترك. ومن ثم، تراجع جدوى هيكل الدفاع الخليجي المشترك أمام التحالفات الثنائية. كما أن إدخال البعد النووي في معادلة أمن الخليج قد يُفاقم سباق التسلح الإقليمي، وهو ما قد يزيد من درجة اضطراب المنطقة. وبرغم أنّ الاتفاق يبدو أنّه موجه لاحتواء إيران، كما هو موجه لردع إسرائيل، فمن غير المرجح أن توقف طهران جهودها لبناء الثقة مع دول المجلس بسبب الاتفاق، إدراكاً منها للحاجة إلى كسر العزلة الإقليمية لمواجهة إسرائيل بشكل أفضل، ولمواجهة تداعيات إعادة فرض العقوبات الدولية عليها.
ولكن قد يؤثر الاتفاق في الشراكة الاقتصادية والدفاعية بين السعودية والهند، الخصم الإقليمي الأكبر لباكستان. ولذلك نفهم حرص السعودية على إرسال إشارات إيجابية للهند بعد توقيع الاتفاق، وأنه لا يستهدف الهند. وفي هذا الخصوص، صرح مسؤول سعودي كبير لـ"رويترز" بـ"علاقتنا مع الهند أقوى من أي وقت مضى، وسنواصل تنمية هذه العلاقة، ونسعى للمساهمة في السلام بالمنطقة بكل السبل الممكنة". وتخشى نيودلهي من أن يؤدي تقارب الرياض مع إسلام آباد إلى تقليص مكانتها كشريك آسيوي مفضل للسعودية، وثمّة تساؤلات كثيرة تطرحها مسألة التزام الرياض رسمياً مع إسلام آباد بالدفاع المشترك، وإمكانية دخول السعودية في أي صراع عسكري مستقبلي بين الهند وباكستان. ويرى ثلة من المحللين السعوديين أنّ السعودية تُفضل القيام بدور الموازن بين البلدين.
ومع ذلك، قد يدفع الاتفاق السعودي- الباكستاني الهند إلى مزيد من التعاون العسكري والاستراتيجي مع إسرائيل. ورغم أن الهند ستتفادى على الأرجح أي قطيعة علنية مع الرياض، فإنها قد تعيد ضبط سياستها الخارجية بشكل غير معلن عبر توطيد علاقاتها مع إسرائيل وشركائها الأوروبيين وإصلاح علاقاتها بالولايات المتحدة، بما يعزز نهجها القائم على "تعدد الاصطفافات". وعلى المستوى الدولي، فقد نظر عدد من المحللين إلى الاتفاق السعودي-الباكستاني على أنه مكسب "هادئ" للصين، ولاسيّما أن باكستان تعدّ حليفاً قوياً للصين، ما يُعزز نفوذ الأخيرة في المنطقة على حساب الولايات المتحدة. ومن شأن هذا الاتفاق أن يلقي بظلال من الشك على الثقة السياسية اللازمة لدفع مشروع "الممر الاقتصادي بين الهند والشرق الأوسط وأوروبا، الذي تدعمه الولايات المتحدة، ويصب في مصلحة مبادرة "الحزام والطريق" الصينية".
والخلاصة أنّ الاتفاق الدفاعي المشترك بين السعودية وباكستان يمثل تطوراً استراتيجياً محورياً لا تقتصر تداعياته على معادلات الأمن في الشرق الأوسط والخليج العربي وجنوب آسيا وحسب، بل تمتد كذلك إلى سباق النفوذ العالمي بين الولايات المتحدة والصين. وقد نشهد، خلال المرحلة المقبلة، المزيد من اتفاقات الدفاع المشترك المماثلة، ومحاولات لإعادة الاصطفاف في المنطقة، في ظل سلوك إسرائيل المزعزع للاستقرار الإقليمي والمهدّد لأمن دول المنطقة، وفشل واشنطن في كبح جماحها، وتراجع الثقة بالضمانات الأمنية الأمريكية، وسعي بعض القوى الإقليمية والدولية لموازنة تحالف الرياض–إسلام آباد.
(الخليج الإماراتية)