هل ثمة ما ينبئ بتشكّل "رأي عام عالميّ" غير قابل للتعايش مع استمرار حرب الإبادة الإسرائيلية المتواصلة منذ عامين في قطاع غزة؟ هل تترسخ في عالم اليوم "منبوذية إسرائيل"؟ أم في الأمر سراب على سراب؟ أم أن هذه المنبوذية لم تحضر إلا بعد أن أجهز الاحتلال على أسباب الحياة وشروط تجددها في غزة؟
يخطئ من لا يرى التدهور المتسارع لصورة إسرائيل على امتداد مجتمعات الكوكب، وإن كانت التعبئة المناصرة للفلسطينيين يحضر أكثرها اليوم في سياقين مختلفين، ما بين الأوساط الناشطة في مدائن الغرب والحكومات اليسارية الشعبوية في أمريكا اللاتينية، هذا في مقابل حالة خمول وقعود تسيطر على معظم البلدان العربية والإسلامية، ما يبيح الاستطراد بالسؤال عما بقي من تركة الشعور التضامني العابر للبلدان بين المسلمين، أو ما سمي نهاية القرن التاسع عشر "البانيسلاميزم"، أي "الجامعة الإسلامية". وكأنه لم يفضل منها شيء اليوم، إنما ليس من دون طرح مفارقة: ففي معظم هذه البلدان، كان استقبال الأنباء عن هجمات حماس يوم 7 أكتوبر 2023 حماسياً وصاخباً، ثم صارت المؤازرة محدودة بمقاطعة ماكدونالد وما على غراره، وليس الضغط على حكومات البلدان المعنية لتصليب موقفها إزاء الولايات المتحدة وإسرائيل.
جزء من الحالة الناشطية الصاخبة في مدن الغرب ما زال يردد شعار "فلسطين من البحر الى النهر"، وهو على كل حال الجزء الأكثر مرئية. عموماً، ثمة هوة تفصل هذه الحالة الناشطة عن حركة السعي من أجل "حل الدولتين". ودأب الناشطين التحكم على حل الدولتين بنزق شديد. مع هذا، فقد حضرت التعبئة الدبلوماسية من أجل "حل الدولتين" مؤخراً، لتتقاطع رغماَ عنها مع حيوية ناشطة، متمحورة حول أسطول الصمود الموجه لكسر الحصار الإسرائيلي لغزة. فمن موقع اليمين الإسرائيلي الحاكم ومريديه عبر العالم، الشعاران اليوم سيَان: "من البحر الى النهر"، أو "حل الدولتين". مع هذا، بدأت تحدث أشياء شديدة. ففي معشر الرهط المسمى "فلاسفة جدد" في فرنسا مثلا في الأصل مثقفون يساريون قطعوا مع التزاماتهم الأيديولوجية الأولى على محك كل من وعي الغولاك والهولوكوست، ليتحولوا بعد ذلك إلى متحمسين لكل حروب "التدخل الإنساني" الأمريكية، ومتحسسين من أي نقد يوجه لإسرائيل.
مع هذا، فيما استمر عضو المجموعة برنار هنري ليفي يشنع على شعار الدولتين على أنه ذر رماد في العيون فإن صديقه فيها، آلان فيلكنكروت قد شذّ عنه هذه المرة واتهم حكومة نتنياهو بأنها بسياساتها تغذي معاداة السامية، وأن إقامة الدولة الفلسطينية المسالمة الى جانب إسرائيل ضروري لمنع الأخيرة من الانتحار. فيلكنكراوت الذي لطالما كانت له مواقف تزايد في الكونية في مواجهة مطالب المسلمين، وتغالي في تجميل التطيّف عندما يتعلق الأمر بالانتماء اليهودي، لم يستطع هذه المرة المحافظة على هذا المسلك، وجرّ عليه موقفه "المستجد" حملة هوجاء.
ثمة تحول في الموقف من إسرائيل جار على قدم وساق. وثمة صعوبة في أن نلتفت الى هذا التحول فيما نكابد تعنت المكابرين الإسلامو-قومجيين على خططهم الصراعية المخفقة والعالية الكلفة بلا أفق تجاه إسرائيل كاحتلال، وكفكرة. صعوبة تزيدها عقود من التناحر والتطهير الإثنيين في العراق وسوريا… والسودان، ومن التزاحم على المظلومية. ولطالما جرى تهميش قضايا الجماعات المختلفة في هذا النوع من البلدان بداعي استراتيجية وقومية الصراع مع إسرائيل. كل هذا لا يساعد على تلمّس التحول في أماكن أخرى، في اتجاه التضامن مع الفلسطينيين، ومركزية هذا التضامن في نشوء حيوية مناوئة للمناخ اليميني العالمي الذي ساد في العشرية الأخيرة.
ثمة مناخ من اليسارية الشعبوية يسرف في سردية "عالمية الصراع" بشكل يشي باستحضار هذه القضية "عالية الرمزية" للهروب من طرح قضايا جذرية بامتياز، تتعلق بمصائر جماعات وشعوب عديدة، لكنها لا تتمتع بالهالة نفسها. إنما في نهاية المطاف هذا هو حال الكوكب اليوم. يمين شعبوي يتمادى في الخروج على النزعة الكونية – الإنسانية بنت عصر التنوير، يواجه بيسار شعبوي يظن نفسه جذريا فيما هو يطبق تحديدا موقف إدوارد برنشتاين وليس روزا لوكسمبورغ، من أن "الحركة كل شيء والهدف النهائي لا شيء". أو في حالته، الناشطية كل شيء، والممارسة النظرية – وشروط التحويل الثوري – لا شيء. يبقى أنه وكما أن اليميني الوقور، الليبرالي والمحافظ، لا يناسبه ان يصير اليمين "دهمائياً" إلى هذه الدرجة، من دون أن يدفعه ذلك هو الى اليسار، فليس لليساري أن يشعر بالحاجة للانزياح يميناً، إن كان اليسار بمعظمه، على هذا النحو الذي لا يحبذه. والى درجة معينة، عليه التأقلم ولو جزئياً مع هذه الحالة. وأساسا الى أي يمين يذهب هو، فيما اليمين لا يقل شعبوية عن اليسار الناشطي، بل يفيض؟
يسار "من البحر إلى النهر" ينجح اليوم في فرض سرديته على المتضامنين مع الدم الفلسطيني. المسكوت عنه عند قسم كبير من هذا اليسار أن الأمور عنده على هذا النحو: إما مركزية الهولوكوست وإما مركزية غزة. يسوق لذلك من خلال جدلية الضحية التي تحولت إلى جلاد. ليس بمثل هذه الجدلية يمكن الشخوص إلى تاريخية الصراع. الرمزية الكثيفة تأتي على حساب التاريخية. وعلى حساب إيجاد أفق عملي لوضع حد لعذابات الفلسطينيين. وهذا لن يتأتى طالما ظل اعتبار الهولوكوست "موضوعا لا يعنينا" إلا حين نرغب أن لم يكن بنفيه، فبربطه بجدلية تحول الضحية الى جلاد. في كتابه الصادر مطلع هذا العام، "العالم بعد غزة" يدعو المفكر الهندي بانكاج ميشرا الى وعي متعدد للمآسي قوامه المقابلة بين مقام المحرقة في الوجدان الأوروبي وبين ما للاستعمار في وجدان الشعوب الملونة. في هذا الكلام منزلقات عديدة. ليس أقلها الاستقالة من السعي ـ التي حاولته حنة أرندت ـ لتفكير كل من الامبريالية واللاسامية والتوتاليتارية في مسار حداثي متداخل. مع هذا يلتقط ميشرا تأصل تاريخا من الرياء في تاريخ الغرب.
فحتى الستينيات لم تكن المحرقة الألمانية قد حضرت بعد كموضوع مستقل. عام 1952 نكلت شرطة بافاريا بمخيم لاجئين معظمهم من يهود أوروبا الشرقية وعلت صيحات "أفران الغاز تنتظركم". وقبل ذلك، وقت محاكمات نورمبرغ لمجرمي الحرب النازيين قلما حضر موضوع إبادة اليهود. بدءا من الستينيات تبدلت الحال ـ في إسرائيل أيضا بالمناسبة، لأنها قبل ذلك كانت تفضل التركيز على السردية "البطولية" لحرب الاستقلال… ضد الإنكليز والرجعية العربية! – تبدلت الحال إنما في سياق تسييج نادي البلدان الغربية وفصله عن الجنوب العالمي، وتحويل إسرائيل لاحقا إلى "الشعب المختار للعالم الغربي بعد الحرب الباردة" على حد تعبير يوري سلازكين.
المفارقة ان ذلك اقترن بانزياح إسرائيل من الصهيونية العمالية، اليسارية، الى الصهيونية التنقيحية، ربيبة كل حركات اليمين المتطرف في عالم اليوم. وهذا بدوره أوجد الوضعية المفضية إلى حرب الإبادة. على قاعدة الدخول بمنطق 7 أكتوبر نفسه: إما أن نبيد وإما أن نباد. واليسار الشعبوي عبر العالم اليوم لا يزال يختلق الذرائع لتسويغ الدافع الى هجمات 7 أكتوبر. أي أنه، على الصعيد المنطقي، لا يزال أقرب ما يكون الى التماثل مع منطق من يعاديهم. مع منطق أن الأرض لا يمكن أن تتسع للجميع. يبقى أن الحركة الناشطة، رغم الوعي الشقي التي ترابط عنده، هي جزء من مناخ متبدل. تهشيمي بامتياز لصورة إسرائيل. جزء آخر من هذا المناخ أن "حل الدولتين" يمارس ضغطا دوليا على إسرائيل بشكل نوعي، إنما في وقت تنهمك إسرائيل بضرب مقوماته الموضوعي، أولا في غزة ثم في الضفة.
(القدس العربي)