لم تقتصر استهانة (أو ربّما إهانة) ترامب بحلفائه العرب والمسلمين على تجاهله ما تمّ الاتفاق عليه في اجتماعه المغلق مع عددٍ منهم، لصالح ما وضعه نتنياهو من شروط. ولا حتى تفاخره، باعترافه بالضمّ الإسرائيلي للجولان (العربية) وبالقدس "الموحّدة"؛ عاصمةً أبديةً للدولة اليهودية، ولا حتى باختياره أن يعلن عن خطته "الغزّاوية" وهو يقف بجوار الزعيم الإسرائيلي الذي تحتلّ قواته أراضٍ عربية في لبنان وسوريا، دعك من فلسطين. ولا يتردّد في قصف هذه العاصمة العربية أو تلك، بدايةً من تونس غربًا، وحتّى الدوحة شرقًا، مرورًا بدمشق وبيروت وصنعاء. بل تجاوز كل ذلك، استهانةً ومهانةً إلى حدّ الزّعم في تصريحاته قبل يومَيْن بأن "كافة" الدول العربية والإسلامية "وقّعت" على خطته (All of the Arab countries are signed up, the Muslim countries all signed up, Israel’s all signed up). (هكذا)!
يكذب ترامب، كعادته حين يقف إلى جانب من تتّهمه المحكمة الدولية بارتكاب جرائم حرب، ليقول (لنا) إنّه يبحث عن السلام. هو في الحقيقة يبحث عن "نوبل للسلام"، وليس عن السلام، بأي معنى من المعاني.
هو ككلّ سمسار يلعب بالألفاظ، أو "بالثلاث ورقات" كما يقول التوصيف الشائع.
على سبيل المثال، لا الحصر، فالحديث كله مُخادع، يقول (لنا) ترامب إنّه لن يسمح لإسرائيل "بضم" الضفّة الغربية، ولكنّنا نعرف، كما أنّ الجميع يعرف أنّه لا يعترض أبدًا على "قضمها"، مستوطنةً بعد أخرى. وصلت مساحة الأراضي الفلسطينية التي التهمتها المستوطنات الإسرائيلية إلى ما يقرب من 50% من إجمالي مساحة الضفّة الغربية، التي هي بالمناسبة "أراضٍ محتلّة"، حسبما تقول القرارات الدولية. وبالمناسبة، ترامب هذا هو الذي قال مرتَيْن إنّ مساحة إسرائيل أصغر ممّا يجب، كما أنّ سفيره (هو) لا غيره، يقول كل يوم إنّه "لا وجود للضفّة الغربية... هذه هي يهودا والسامرة، وهذه ليست مستوطنات أو أراضيَ محتلّة، بل هي أحياء ومجتمعات إسرائيلية"، وإنّ على الفلسطينيين أن يبحثوا عن مكانٍ لهم في دولة أخرى. لا أظنّنا بحاجةٍ إلى تعليق.
نتنياهو المطارَد قضائيًا والمنبوذ دوليًا يحاول أن يحصل في البيت الأبيض على ما لم يحصل عليه في الميدان
"كلّ يبحث عن ليلاه"، كما يقول المأثور العربي، بمَن فيهم أولئك "العرب" الذين سارعوا إلى التأكيد على ترحيبهم بالمخطّط "الأميركي/الإسرائيلي"، متغافلين عن عواقبه، ليس فقط بالنسبة إلى الفلسطينيين وقضيتهم "المركزية"، كما كانوا يقولون لعقودٍ، بل بالنسبة لأمنهم القومي "القُطري" ذاته، ممّا لن تتّسع سطور هذا المقال لتفصيله (ربّما نأتي على ذلك في مقالٍ خاصّ).
"كلّ يبحث عن ليلاه":
ترامب؛ النرجسي يبحث عن الأضواء، ونوبل الذهبية، وسحب البساط من تحت أقدام ماكرون، الذي قاد الاعترافات العالمية بالدولة الفلسطينية قبل أيام فقط من خروج ترامب الاستعراضي، في مؤتمر صحافي يخلو من أسئلة الصحافيين.
وترامب؛ سمسار العقارات يبحث عن "الصفقة"، التي قال، كعادته، أنّ تمويلها سيكون خليجيًا، بينما هو يحصد العوائد مُسترخيًا على شاطئ الريفييرا "الشرق أوسطية"، يستمتع بمشاهدة الراقصات كما في مقطع الفيديو "التخيّلي" الذي نشره على صفحته الرسمية غداة حديثه المبكر عن خطته "الغزّاوية".
ونتنياهو؛ المطارَد قضائيًا والمنبوذ دوليًا يحاول أن يحصل في البيت الأبيض على ما لم يحصل عليه في الميدان، بعد حرب العامَيْن، وهي الحرب الأطول في حروب إسرائيل العربية كلّها. كما يحاول أن يكسر عزلته بأن يقلب الطاولة ليُنسيَ العالم جرائمه، فيعمد إلى تعديل الخطة الأصلية، ليفخّخها بما يكفي لدفع المقاومة إلى رفضها لتصبح فجأةً وكأنّها المسؤولة برفضها هذا، عن استمرار الحرب ومعاناة الفلسطينيين وتجويعهم.
الهدف لم يكن أبدًا إنهاء الحرب، ولا حتى استعادة الإسرائيليين المحتجزين في القطاع. فقبل أيام فقط من إعلان الخطة التي أرادوا التسويق أنّ هذا هو هدفها، أفشل الفيتو الأميركي مشروع قرار من مجلس الأمن ينصّ على البندَيْن، على الرَّغم من موافقة بقية الأعضاء الأربعة عشر. بالمناسبة هو الفيتو الأميركي السادس على قرارات إنهاء الحرب وعودة المحتجزين. وبالمناسبة أيضًا هناك قرار صدر قبل أكثر من عام، وقبل تولّي ترامب السلطة يقضي بالبندَيْن ذاتهما، إلّا أنّ إسرائيل تجاهلته.
الهدف هو إخراج إسرائيل من أزمتها الدولية، وتصوير "حماس" على أنّها هي التي ترفض إنهاء الحرب. وأنّها بالتالي المسؤولة عن كل ما يجري في القطاع من فظائع وتجويع وقتل يومي. وليس نتنياهو وأركان حكومته المتهمين أمميًا بارتكاب جرائم حرب.
ما نراه ليس فقط ممارسةً لمهارة الإفلات من العقاب، بل لمكافأة مَن يستحقّونه على جرائمهم.
هي بامتياز لعبة علاقات عامة يُجيدها السماسرة.
لست في معرض استعراض الاختلافات البيّنة بين ما طرحه ترامب على من اجتمع معهم من الزعماء العرب، وبين ما أعلنه في نهاية المطاف بعد اجتماعه مع نتنياهو، فكثيرون سبقوني إلى ذلك. (في هذا الرّابط جدول بأهم الاختلافات).
فقط أذكر أنّ الخطة "المُعدّلة"، الخالية من أي ضماناتٍ، تسمح لإسرائيل بكلّ شيء، بدءًا من الاحتفاظ بمحور صلاح الدين (فيلادلفيا) في انتهاكٍ صارخٍ لمعاهدة السلام مع مصر، وحتى السيطرة الأمنية على القطاع، والعودة إلى الحرب "متى رأت إسرائيل أنّ هناك داعٍ لذلك"، فضلًا عن التحكّم في حجم المساعدات التي تصل إلى القطاع، ممّا يسمح باستمرار التجويع الذي قد يدفع الباقين في غزّة إلى مغادرتها (طوعًا) بحثًا عن الحياة.
أخشى أن هناك مَن نسي مع مَن نتعامل.
في نشرة الأخبار، وفي الخبر التالي مباشرةً لخبر الصفقة الترامبية، كان هناك خبر عن ضربة إسرائيلية (هي تقريبًا شبه يومية) للأراضي اللبنانية، على الرَّغم من اتفاق (أميركي أيضًا) عمره يقترب من العام، يقضي بوقف الاعتداءات الإسرائيلية، وبانسحابها من الأراضي اللبنانية. ولكن هذه هي إسرائيل يا سادة، التي لا يريد (أو ربّما يعجز عن رؤيتها) أولئك الذين سارعوا إلى الترحيب بالخطة الأميركية.
الحقيقة الكاشفة للعجز العربي لا تنفي حقيقة أنّ أول من سيدفع ثمن غياب المقاومة هم جيران هذا الوحش المُتغطرس
وفي "مانشيتات" صحف (2004): أنّ وزير الخارجية الأميركي أكّد لرئيس الوزراء الفلسطيني أحمد قريع "التزام واشنطن بإقامة دولة فلسطينية مستقلّة بحلول 2005". وفي أرشيف الصحف الكثير جدًا من هذا، منذ أوسلو 1993 التي وعدت بدولةٍ خلال خمس سنوات.
أُدرك أنّ هناك بشرًا، وأنّ ما تحمّله الفلسطينيون في غزّة على مدى عامَيْن غير مسبوقٍ منذ الحرب العالمية الثانية، كما يقول مؤرّخون غربيون. وأُدرك أنّ مع مثل هكذا مأساة، ربما لا يبقى أمام "المخذولين" (أكرّر: "المخذولين") سوى الاستسلام لما تفرضه القوة، والواقع. ولكن احذروا، فثمن المرارة سندفعه جميعًا. ناهيك عن ثمن أن تكون خاضعًا. (والوصف للسيد توم باراك).
بعدما لم يعد في غزّة غير الركام والدمار، وبعد أن نجحت الوحشية الإسرائيلية في تحويلها إلى مكانٍ لا يصلح للعيش، قد تُحتِّم الواقعية، القبول "بأي عرضٍ" يُعيد شيئًا من مقوّمات الحياة، ولكنّ الحقائق لا تنفي بعضها. فهذه الحقيقة المؤلمة الكاشفة للعجز العربي عن إيقافها (وكان هناك الكثير ممّا يُمكن فعله)، لا تنفي حقيقة أنّ أول من سيدفع ثمن غياب المقاومة هم جيران هذا الوحش المُتغطرس، الذي تعلم أنّ بإمكانه أن يفرض إرادته على الجميع. كما أنّها بالطبع لا تنفي حقيقة أنّ الإسرائيليين قاموا بأكبر إبادة جماعية في التاريخ الحديث، ثم ساعدهم التواطؤ الترامبي والعجز العربي على الإفلات من العقاب، أو بالأحرى على الإفلات بفعلتهم ليكرّروها، إن آجلًا أو عاجلًا بحقّ كلّ من يفكّر (من الجيران) في عدم الخضوع (والوصف، مرة أخرى للسيد توم باراك).
كان يجب أن يُضاف إلى خطة ترامب بند ينصّ على "قيام دولة فلسطينية" إن كانوا يتحدّثون عن "السلام" وليس الاستسلام
وبعد،
فأيًّا كان من أمر الواقع الذي نراه على الشاشات، على مدى عامَيْن كاملَيْن، ومن الحقائق التي سيكتبها التاريخ، وأيًّا كان أمر سماسرة العقارات والعلاقات العامة، فلو كنت صاحب القرار في فصائل المقاومة، لوضعت شرطًا واحدًا فقط لقبول خطة ترامب (لم تضعه سلطة رام الله للأسف)، وهو أن يُضاف إلى الخطة المكوّنة من 20 بندًا إسرائيليًا، بندًا واحدًا فقط ينصّ على: "قيام دولة فلسطينية معترف بها وقابلة للحياة، حسبما قضت به القرارات الدولية ذات الصلة... وأن تعلن الولايات المتحدة الأميركية وإسرائيل اعترافهما بهذه الدولة، كما جرى قبل أيام من قبل فرنسا وبريطانيا وغيرهما من الدول". هذا إن كانوا يتحدّثون فعلًا عن "السلام" كما عنونوا خطتهم، وليس عن الاستسلام والخضوع "العربيَيْن" الذي تحدّث عنهما السيد توم باراك لمحطة تلفزيون عربية قبل أيام.
بهذا الشرط "البند الحادي والعشرين" ينقلب السحر على الساحر، وتُصبح الكرة في ملعب ترامب، الذي قال إنّه "يتفهّم" نتنياهو الذي أعلن مائة مرة أن "لا مكان لدولةٍ فلسطينيةٍ أبدًا"، ويعرف العالم من هو حقًا الذي لا يريد السلام، ويزيّف الحقائق.
ها قد اتخذت "حماس" قرارها، بعد الانتهاء من كتابة هذا المقال. وكالعادة، سيحكم موقف المعلقين على قرارها ما اعتدناه من استقطاب، لا علاقة له بالموضوع، فضلًا عن الزحام المتوقع من "الذباب الإلكتروني" من هذه الناحية أو تلك. ولكن القراءة "المجردة"، للبيان الرسمي للحركة (إقرؤوه جيدًا من فضلكم)، ولتصريحات مسؤوليها تقول لنا إن حركة "المقاومة"، حين غاب "البند الحادي والعشرون"، لم توافق إلا على ما وافقت عليه مائة مرة من قبل، وهو للمفارقة ما كان قد ورد نصًا في قرار مجلس الأمن الأخير، الذي أجهضته واشنطن بالفيتو السادس، لا أكثر ولا أقل، أما بقية "بنود الإذعان" الترامبية، الواردة في خطته "الإسرائيلية"، فهي لم تغب فقط عن بيان "حماس"، بل أوضحت الحركة بجلاء:
1. أن لا مكان "لوصاية" دولية، أو لانتداب استعماري جديد.
2. أن لا إقصاء لـ"حماس"، كما ورد بوضوح في بيانها. بل وطبقًا لتصريحات أسامة حمدان، لا نزع لسلاح المقاومة، قبل إنهاء الاحتلال، مثلما هو الحال مع كل مقاومة، وكل احتلال.
3. كل ما فعلته "حماس" هو أنها أهدت ترامب ما يبحث عنه: اللقطة الاستعراضية مرتديًا قبعة "صانع السلام"، حتى ولو كانت زائفة.
يبقى أن لا عاقل يضمن نتنياهو، الذي يجيد التملص من تعهداته، واتفاقاته، ولا حصيف يمكنه أن يثق في ترامب الذي نعرف سوابقه، والذي لا يهمه اليوم غير أن يفوز بـ"نوبل للسلام"، والتي من المفترض أن يُعلن الفائز بها نهاية هذا الأسبوع. نسأل الله السلامة مع هكذا مخادعين أو نرجسيين!.
(خاص "عروبة 22")