تقدير موقف

خطة ترامب تُقوّض "لاءات" مصر وتهدّد أمنها وسيادتها!

"راحت السكرة وجاءت الفكرة"؛ هذا أكثر وصف ملائم للدول العربية والإسلامية التي اندفعت لإطاعة خطّة ترامب.

خطة ترامب تُقوّض

بعد أقلّ من يومَيْن من الحماس للخطة والضغط على "حماس" لقبولها... عاد مسؤولون بارزون خطوةً إلى الوراء، وبدأوا التحدّث عن كارثتَيْن مُخيفتَيْن تحكمان عادةً بالفشل على أي خطة لتسوية أي صراع معقّد:

- الكارثة الأولى هي الخداع وعبّر عنه وزير خارجية باكستان عندما قال إنّ ما أعلنه ترامب مع نتنياهو كخطةٍ، ليس هو أبدًا ما اتفق عليه مع زعماء عرب ومسلمين في 23 سبتمبر/أيلول الماضي.

- الثانية هي حديث وزير خارجية مصر عن أنّ الشيطان في التفاصيل، وحديث وزير خارجية قطر عن قضايا مُبهمة في الاتفاق لا بدّ من "التفاوض" عليها. ما يتردّد عن خيانة ترامب لما عرَضه على العرب "سبب كافٍ للنّظم العربية لإعادة التفاوض حول الخطة وتحويل العودة خطوة إلى الوراء، "استراتيجية مقاومة" لآثارها المدمّرة والتي إن طُبّقت سيكون حكم التاريخ على الجميع شديد القسوة.

خطة ترامب تُعرّض مصر لانكشاف استراتيجي خطير

سنركّز هنا على مصر التي - ربما تكون بعد الفلسطينيين - هي أكثر طرف معني بكبح هذه الخطة وإعادة التفاوض عليها لأنّها تُمثّل خطرًا داهمًا الآن وفي المستقبل. فمنذ السابع من أكتوبر/تشرين الأول، بَنَت مصر موقفها على 3 لاءات واضحة اعتبرها صانع القرار المصري خطوطًا حمراء. هذه اللاءات هي:

- رفض المواجهة العسكرية مع إسرائيل والحفاظ بكلّ الطرق على معاهدة السلام معها.

- رفض التهجير الفلسطيني من غزّة إلى مصر لأن ذلك ينطوي على تهديدٍ خطيرٍ للأمن القومي المصري، وقد يفتح الباب لعودة الإرهاب إلى سيناء الذي دحره النظام السياسي المصري كمنجزٍ لن يقبل تضييعه.

- رفض "المشاركة في ظلم الفلسطينيين" بما يهدّد فرصة حلّ الدولتَيْن.

يُجادل تقدير الموقف هذا بأنّ خطة ترامب تقوّض هذه اللاءات، وتُعرّض مصر لانكشاف استراتيجي خطير حتى بمعايير المنظور الذي يُقيم فيه عقل الحكومة منذ خمسين عامًا، والذي يحصر دورها ومهمّتها في حماية مصالح مصر... ومصر فقط!

الخطة تسرق غزّة وشاطئها وغازها وتُحوّلها إلى محمية وربما إلى قاعدة عسكرية أميركية

حافظت مصر على لاءاتها الثلاثة من خلال ما اعتبرته إنجازَيْن سياسيَيْن، لكنّها قد تكتشف أنّ أول ما تقضي عليه خطة ترامب هما هذان الإنجازان:

- إنجازٌ أولٌ يتمثّل في إقناع مصر لحركة "حماس" منذ شهور طويلة بقبول التخلّي عن حُكم غزّة لحكومة تكنوقراط غير فصائلية تضمن أن يحكم الفلسطينيون أنفسهم وتضمن أن تبقى غزّة جزءًا من الدولة الفلسطينية. بمقترح ترامب في تسليم سلطة غزّة لمجلس انتداب غربي، يتمّ تدمير هذا الانجاز ويجعل التكنوقراط الفلسطينيين الطبقة الثالثة الدنيا في هرمٍ توكَل السياسة فيه لتوني بلير ومجلسه أي "للأميركيين والإسرائيليين"، والطبقة الثانية لسكرتارية المندوبين الساميين الخمسة، والطبقة الثالثة هم الفلسطينيون التكنوقراط الذين تنحصر مهمّتهم في تنفيذ أوامر السلطتَيْن الأجنبيتَيْن الأعلى منهما.

- تنسف خطة ترامب الإنجاز الثاني من وجهة نظر الحكومة المصرية والمتمثّل في خطة إعادة الإعمار التي بلورتها القاهرة وأصبحت خطةً عربيةً إسلاميةً بعد إقرارها من مؤتمر القمة. خطة ترامب تتجاهل تمامًا الخطة المصرية لإعمار غزّة التي بُنيت على فهمٍ من دولةٍ تاريخها مغروس في الموضوع الفلسطيني، لصالح خطةٍ تسرق غزّة وشاطئها وغازها لصالح شركات العقارات الأميركية والإسرائيلية والخليجية وتُحوّلها سياسيًا إلى محميةٍ وربما إلى قاعدةٍ عسكريةٍ أميركية.

إدارة غزّة بحكومة تكنوقراط فلسطينية كاقتراحٍ مصري بالأساس، كان يحقّق للقاهرة استمرارًا في دورٍ رئيسيّ في الشأن الفلسطيني يحمي على الأقل مصالحها الاستراتيجية من منظور حكمها، ويُبقي عليها طرفًا إقليميًا تقصده أميركا وأوروبا كوسيطٍ رئيسيّ مع الفلسطينيين، وهو ما يمنحها فرصةً أفضل مع المانحين والمؤسّسات الدولية الخاضعين لواشنطن. الأمر نفسه بالنسبة لخطة إعادة الإعمار فهي ليست في صالح أهل غزّة فقط، وهي لا تمنع تهجيرهم وتُبقيهم في بلدهم بتسهيلات حياة مؤقتةٍ مقبولةٍ حتى اكتمال إعادة الإعمار فحسب، ولكن تعمل أيضًا لصالح الاقتصاد المصري بالحصول على دورٍ رئيسيّ في التخطيط والتشييد وتوريد مستلزمات البناء وفتح الآلاف من فرص العمل. أمّا في خطة ترامب، فتخطف معظم هذه المزايا شركات ترامب وكوشنير وغيرها ويحصل العرب "المطلوب منهم تمويل هذه الخطة" على الفتات.

يقذف ترامب بكرة اللّهب في حجر العرب لكي يتقاتلوا مع أشقائهم الفلسطينيين

ما تقدّم من خسائر فورية من خطة ترامب لا تساوي 1% من الخسائر الاستراتيجية المُحتملة على الأمن القومي المصري:

* تضع خطة ترامب ممرّ فيلادلفيا في يد إسرائيل فتحوّل هذه المنطقة التي يُفترض أن تكون منزوعة السلاح، إلى انتهاكٍ دائمٍ يهدّد أمن مصر المباشر، ويهدّد بنقطة احتكاك عسكري مباشر قد يهدّد سعيها لعدم التورّط في صراعٍ مع إسرائيل عند أي انفلاتٍ من قوات أو جنود أحد الطرفَيْن.

* التورّط العسكري الأخطر قد يكون مع الفلسطينيين، إذ إنّ خطة ترامب تضع عبء الأمن ونزع سلاح المقاومة وتدمير الأنفاق على الطرف العربي والمسلم وتشدّد في هذا الصدد على دورٍ لمصر والأردن. يقذف ترامب بكرة اللّهب في حجر العرب لكي يتقاتلوا مع أشقائهم الفلسطينيين، وبدلًا من مقتل وإصابة آلاف الجنود الإسرائيليين خلال العامَيْن الأخيرَيْن يُقتل بدلًا منهم العرب.

* إرهاب ناتج عن اليأس وعن المشاركة في نزع سلاح أو تصفية قضية عادلة قد ينهمر كالطوفان، وقد يستغلّه الإرهاب الخارج من عباءة "قطب" و"القاعدة" و"داعش" ليُطلّ برأسه الأسود من جديد في سيناء والوادي والصحراء الغربية بعد أن جرى دحره.

الخطة تُدمّر فكرة الدولة الفلسطينية وتحرم مصر من الاستقرار على حدودها الشرقية

* تُبقي خطة ترامب على التهجير الفلسطيني وإن كانت تدّعي أنه سيكون طوعيًا وقابلًا للعودة، وهي كذبة فنّدها الرئيس المصري نفسه قائلًا إنّ "مَن يُهجَّر من فلسطين لن يعود". احتمال التهجير مع حالة اليأس وحالة "عليَّ وعلى أعدائي" الشعورية التي ستسود، هي مصدر محتمل آخر للإرهاب وعدم الاستقرار للدولة المصرية.

* مصدرٌ آخر لنموّ أنشطة مسلّحة ضدّ مصر يتمثّل في فخ أن يصبح توني بلير مندوبًا ساميًا يحكم غزّة من العريش أو من منطقة "الجورة" حيث مقرّ القوات متعدّدة الجنسيات التي تشرف على المعاهدة المصرية - الإسرائيلية.

* الخطة تفصل غزّة عن فلسطين والسلطة، وتُدمّر فكرة الدولة الفلسطينية تمامًا، وبالتالي تحرم مصر من الاستقرار على حدودها الشرقية تعلم أنّه لن يحدث إلّا بقيام دولة فلسطينية تقودها سلطة لديها روابط ولاء قوية بالقاهرة منذ اتفاق أوسلو.

(خاص "عروبة 22")

يتم التصفح الآن