التعليم والسياسات التربوية

فائض المَعلومة وأدوار التَّعليم

فرضت التمكّنات التّقنية التي بات الإنسان يسكن بين آلاتها، طُرقًا في التَّدبير لم تكن معهودةً[1]، والذي يهمّنا في هذا المقام، هو: التَّدبيرات التَّربوية، وما يُلَازمها من مفاهيم وتقنيات وغايات، أي مفاهيم الكلّيات التَّعليمية وكيفيّات إنجاز الفعل التَّعليمي والغايات التي يتقصَّدُها القائم على هذه المحدّدات.

فائض المَعلومة وأدوار التَّعليم

قبل الاسترسال في الحديث عن بؤرة الموضوع، فإنّه يجب علينا، بِدءًا استجلاء الفارق بين التَّربية والتّعليم؛ فالتَّربية هي اهتمام بالجوانب الحيوية وتنمية لقوى الجسم؛ فيما يُعرف بتلبية الدَّوافع الحيوية مثل دافع التغذِّي والرّعاية؛ بينما التَّعليم هو تنمية للقوى الرّوحية والعقلية والنَّفسية في الذّات؛ إنَّه بناء في عمق الوظائف العليا التي هي مركز الدّائرة ومحور المحيط. لذلك، نجد أنّ كلمة التَّربية، بما هي اهتمام بالجوانب الحيوية، تتقاطع في وظيفتها مع غير الإنسان: فهناك تربية النَّحل وتربية الأسماك وتربية الأبقار وغيرها، بينما التَّعليم إنّما هو الخاصِّية الجوهرية الإنسانية المُتفرِّدة، التي تتسانَد تكامُليًا في أفعالها مع أدوار نوعية أساسية؛ يمكن إظهارها في: تقوية الوِجدان الرّوحي، والتَّوجيه نحو القيم وتنمية الذَّائفة الجمالية الرَّفيعة وتعليم الوجود الكريم معًا، ونظرًا لهذا المُحدّد الجوهري في الذّات؛ لا عجب أن يقال عن الإنسان إنّه مخلوق قارئ!.

وإذ تَبيّن الفارق بين التَّربية والتَّعليم، فإنَّنا نكتفي به، ونمضي إلى مطلوبنا، أي الاستفهام حول أدوار التَّعليم في ظلّ هذه الوفرة المعلوماتية والمخازن الإلكترونية والسُّرعة في المعرفة، فهل تبقى مكانة المعلّم والتَّعليم المعهودة هي نقطة الانطلاق ومحور العملية التَّعليمية؟ أم يجب تجديد هذه الأدوار المسلوكة بما يُعين على تحقيق أقصى الغايات التي نهض لأجلها التَّعليم؟ وهل تصبح الغاية هي العقلنة والمعرفة أم الرَّشادة والتَّخْليقْ؟.

إقامة الرَّبط بين المعارف والواقع تُعطي للتَّعليم دورًا آخر

أولًا. وفرة المعلومة ليست بديلًا كلّيًا: باتت المعلومة التي كانت متمركزةً في المعلّم، متوفرةً وبشكلٍ لا نظير له، والمتعلّم إنّما يكتفي بالبحث في الخزَّانات الإلكترونية، كي تأتيه في لمح البصر أو أقرب؛ لكنّ الشَّيء المَنسي هنا، أنَّ معرفة المعلّم تخرج وهي ملتحمة بالأنفاس الرّوحية وبالحرارة التَّوجيهية، بينما معارف التِّقنية باردة وتخلو من حرارة الوِجدان والقدرة على التّوجيه. من هنا، فإنَّ شحن المعرفة بالأنفاس التَّوجيهية، وإثارة السُّؤال وتعليم النَّقد وإقامة الرَّبط بين المعارف من جهة، وبينها وبين الواقع من جهة أخرى، تُعطي للتَّعليم دورًا آخر، يتَولّىَ جبْرَ تلك الثقوب السَّوداء التي تتركها المعرفة المُستلّة من التّقنية. أي أنَّ تنمية المهارات العقلية أو الفكر الطبيعي بلغة ابن خلدون بدلًا من الفكر الصّناعي؛ هو التِّرياق الأفضل لكثرة المعلومات وأخطائها وإعلاناتها وحدودها، فالعقل الإنساني فيه خصوصية ذاتية نوعية؛ هي إدراك المسافة والوعي بها والاقتدار على التصرّف في الآتي من الخَارج، بمعنى أنّه ليس مجرّد صفحة بيضاء تتراكم عليها المعطيات الحسّية والعقلية لتُشَكِّل منها أفكارًا.

مَن لا التزام له لا إبداع في أفكاره وسلوكه

ثانيًا. وظيفة أخرى للتَّعليم: لم يكن دور التَّعليم، خاصَّة في السِّياق الثقافي الإسلامي العربي، يُختزل في ملء العقول بالعُلوم، وإنّما كان يُقدّمُ عليه؛ ملء النَّفس بالقيم والمعنى والتوجيه نحو الغايات الرفيعة أي التخلُّق. والتَّعليم في زمننا هذا، أي زمن تآكل المرجعيات وشرود الأخلاقيات وفَقْد المعنى والوُجهات، هو في دورٍ أكثر قيمة من دور حشو العقول بالمعارف؛ فنفوسُ المتعلّمين هي محلُّ التَّوجيه الأخلاقي، وتنمية القوى الرّوحية؛ حِفظًا من فقدان القوة على الانضباط والالتزام. ومعلوم أنّه مَن لا التزام له لا إبداع في أفكاره وسلوكه، فالمعلّم هنا يتجدَّد دوره ويكاد ينحصر في التَّوجيه الأخلاقي وتزكية نفوس المتعلّمين وتعليمهم المكاسب الإنسانية التي يُحَصِّلونها، من تحلّي سلوكهم بالأفعال المحمودة أو ما تكون النَّفس به فاضلة.

إنّ التّوجيه الأخلاقي لا يتواجد في بنوك المعلومات، والقيم الأخلاقية يكون الوعي بها عندما يحصل التحلّي بها في السُّلوك وليس عندما يتمّ التعرُّف إليها، فالفعل الأخلاقي إنّما يقوى بقدر ما يَستمرّ ويستزيد، وتعليمٌ بهذا الارتكاز على بثّ القيم في نفوس المتعلمين؛ هو الأصلح لتحدّياتنا الحضارية؛ والأقوَم أيضًا؛ على التصدّي لإرادات القوى، التي تريد أن تسود وتُهيمن وتنهب. ومتى وجدت هذه القوى فراغًا أخلاقيًا وانقسامًا اجتماعيًا وتشرذمًا ثقافيًا، استطاعت أن تَسود وأن تملك، أمّا إذا كان هناك امتلاء روحي وتكامُل اجتماعي وترابط ثقافي، فإنَّ الدّائرة تكون أوفر حصانة وأوسع يقظة، ومعلوم أنّ التَّعليم المُترابط مع القيم؛ هو الذي يحقّق هذه الأشياء وليس وفرة المعلومات، فالأخلاق هي رابطة ورباط: رابطة الذَّات مع ذاتها ومع غيرها ومع الإنسانية.

يجب فتح العقول على أسباب الجوع ومصير الخيرات ومن يتولّى نهبها

ثالثًا. تضمين المعنى الحضاري في التّعليم: إنَّ ما لا يتواجد في خَزّانات المعرفة، تلك التَّرابطات الحيّة بين الكلمات والأشياء، بين الأفكار وحركة التّاريخ والاجتماع، والمُعلِّم القائم على التَّوجيه الأخلاقي هو الذي يُعَمِّرُ هذا الفراغ؛ بأن يُقيم الجسر المفقود بين مضمون المعرفة وبين إرادة التّغيير، أي يَبُثّ في عقل المتعلّم الأبعاد الحضارية في المعارف والأفكار. فلا يَكفي مثلًا أن نقدِّم للمتعلّم إحصاءاتٍ حول عدد شهداء فلسطين، وعدد الدّول التي تقف مع العدل ضدّ الظلم، بل يجب على المعلّم أن يَغوص معه في أسباب هذا العنف ضِدَّ الفلسطينيين وضِدَّ العالم العربي وحتى الإنسانية؛ ويعلّمه كيف تفيده المعرفة التاريخية، في أفق التصدّي والمقاومة. ولا يكفي كذلك أن نتحدَّث عن نِسب الجوع في أفريقيا والتخلّف واسع النطاق هناك، بل يجب فتح العقول على أسباب هذا الجوع ومصير الخيرات المادية التي تملكها أفريقيا، ومن يتولّى نهبها وحلب مواردها.


[1] مثل حقول التكنولوجيا والفيزياء والطب والعلوم وثمرات الذّكاء الصناعي وغيرها


(خاص "عروبة 22")

يتم التصفح الآن