يُعدّ لفظ "ما بعد الإنسان - Posthuman" شعارًا وليس فقط مفهومًا لحركة تدعو إلى التحضير لقدوم طور جديد من الإنسان المعدّل، والمتجاوز للإنسان الحالي. وهي فكرة في غاية الخطورة كما قال فوكوياما،لأنها تسعى الى التبرم من الطبيعة الإنسانية وتتوق إلى إلغاء الخصوصيات الإنسانية وتتخيّل ذات ممتزجة ومنصهرة مع التكنولوجيا المتقدّمة، بل هي تجديد لطموح قديم وهو وهم "خلود" الإنسان.
ويُراد بـ"ما بعد الإنسان" ذلك الكائن الإنساني الذي ستحوّله التكنولوجيا إلى إنسان مركّب من قطع غيار متعدّدة مصنّعة في المختبرات. فهو "إنسان" معدّل وراثيًا ومدعوم كذلك بأحدث الاختراعات في مجال النانو تكنولوجيا، فهو إنسان آلي أو شبه آلي يتجاوز "النقص" البشري.
مفهوم "ما بعد الإنسان" تجديدٌ للصراع بين العلم والدين ودعوة للدخول في عصر يُسلّم فيه الإنسان قدَرَه للآلة
وقد تناول إشكالية "ما بعد الإنسان" تياران أساسيان، تيار ما بعد الإنسانية - Posthumanism ويمثّله عدة باحثين: (kathy Hayles ;Roberto Marchesini ;Gary Wolfe ; Donna Haraway ; Rosi Braidotti)، وهناك تيار آخر هو عبر الإنسانية - Transhumanism ويمثله: (Nick Bostrom ;Ray Kurzul ; Max More ;Anders Sandberg). ويكمن الفرق بينهما في كون التيار الثاني لا يكتفي فقط بالدعوة إلى تحسين قدرات الإنسان عن طريق التكنولوجيا الفائقة، وإنما الذهاب بعيدًا إلى المطالبة بتجاوز الطبيعة الإنسانية والتبشير بكائن جديد.
و"ما بعد الإنسان" هو عصر التميّز القادم الذي تحدّث عنه "راي كورزويل" في كتابه "الفرادة قريبة: عندما يتجاوز البشر علم الطبيعة" والذي صدر في 2005. وهذا التفرّد هو الإمكانية التقنية الهائلة المتاحة أمام الإنسان لتحسين قدراته الذهنية والجسدية، وتجاوز كل الأعراض المعهودة في الإنسان والتي تعيقه في تحقيق التفوّق، ومن ذلك الشيخوخة بل حتى الموت.
ويختزل مفهوم "ما بعد الإنسان" تلك النظرة الناقدة للوضع الإنساني، بل كذلك الاستهزاء بالديانات السماوية التي تُقرّ بحتمية النهاية والانتقال لعالم ما بعد الموت. فمفهوم "ما بعد الإنسان" هو تجديدٌ للصراع القديم بين العلم والدين، حيث العلم ما بعد الحديث، الذي يحتفي بتفوّقه وقدرته على تجاوز وتقويض مسلّمات الدين.
والمفهوم هو دعوة صريحة للدخول في عصر جديد يُسلّم فيه الإنسان قدَرَه للآلة الفائقة الذكاء والقادرة على خدمة الإنسان وتمكينه من قهر الطبيعة، بل دعوة كذلك للتخلي عن الخصائص المتميّزة للإنسان والاستسلام لعوالم ما بعد الإنسان والانتشاء بلذّة التفرّد والتميّز.
وقد نشأ الفكر ما بعد الإنساني في سياق عالمي اتّسم بالفشل في تحسين الوضع الإنساني، حيث لا زالت البشرية تعاني من الأمراض والفقر والحروب والصراع على الموارد المحدودة والتوجّس من المستقبل. وكذلك إفلاس النظريات والسرديات الكبرى الحالمة بالتقدّم وسعادة الإنسان المطلقة والمبشّرة "بالفردوس الأرضي".
واستفاد رواد الفكر ما بعد الإنساني من التقدّم الهائل في التكنولوجيا، خصوصًا في مجال علم الوراثة والنانو تكنولوجيا والمعلوميات والذكاء الاصطناعي وعلم الإنسان الآلي والتكنولوجيا الحيوية وصناعة علم المواد الحديثة، وعلم الدماغ وعلم الأعصاب وغيرها من العلوم، للإعلان عن ميلاد إيدولوجية جديدة، هي الـ"ما بعد الإنسانية" التي ستخلّص البشرية من محنتها الوجودية وتقودها إلى السعادة الحقيقية.
وتعتبر ظاهرة الانبهار بالتكنولوجيا "Extropy" بمثابة فكرانية جديدة، تدّعي تحرير البشرية من العجز ولكن كذلك من "الإنسانية" باعتبارها وعاءً لم يعد صالحًا لكينونة ما بعد الإنسان.
رواد الفكر "ما بعد الإنساني" يؤمنون بأنّ التكنولوجيا هي "الخالق الجديد"
وهكذا تأسّست جمعية عالمية لما بعد الإنسانية، تدافع وتروّج لهذا الفكر، وتدعو إلى تبنّي مبادئها وأهدافها، وتعتبر الحضارة ما بعد الإنسانية أمرًا حتميًا.
ويعتقد "كرزويل" بأنّ هناك حاجة إلى إعادة النظر في مفهوم البشرية نفسه، ويؤمن بأنه في نهاية القرن الحالي لن تظلّ الكائنات البشرية هي الأكثر ذكاءً، بل سيظهر كائن جديد هو ما بعد الإنسان. ويدافع "كرزويل" عن مجموعة من الحتميات، ومنها حتمية تغيير البشرية، وحتمية تطوّر الحوسبة والتكنولوجيا، وحتمية انصهار البشرية في الآلة وحتمية الخلود.
ويبدو جليًا أنّ "كرزويل" وغيره من رواد الفكر ما بعد الإنساني يؤمنون بأنّ التكنولوجيا هي "الخالق الجديد"، ويستثمرون أموالًا كبيرة في مشاريع إطالة الحياة واكتشاف سرّ الخلود، مثل "مبادرة 2045" والتي هي منظّمة غير ربحية تسعى إلى تجميع الباحثين من العالم المهتمين بإطالة الحياة وتحميل الدماغ البشري أو الوعي الإنساني "mind uploading".
ويموّل هذه المنظمة رجل الأعمال الروسي دمتري لستكوف، كما استثمر Larry Cage مؤسس جوجل حوالى 750 مليون دولار في مشروع Calico وهي شركة في مجال البيوتكنولوجيا، وهدفها القضاء على الشيخوخة بل الموت نفسه!
ومن المعلوم أنّ شركة جوجل هي من بين أكبر الشركات المموّلة لفكر ما بعد الإنسان، وقد كلّفت منذ 2012 "راي كرزيول" - وهو من أكبر المنظّرين للتيار عبر الإنساني - بالإشراف على بحوث الذكاء الاصطناعي في خدمة فكرة ما بعد الإنسان. كما ساهمت هوليود في إنتاج عدّة أفلام حول الإنسان الفائق والترويج لأيديولوجية الفكر ما بعد الإنساني.
الأجيال العربية آخذة في الانبهار بالتكنولوجيا والإيمان بمعجزاتها بدون تمحيص ولا قدرة على النقد
وقد يتصوّر البعض أنّ هذا النمط من التفكير هو فقط "موضة" عابرة أو مجرّد تصوّرات ستتلاشى بسرعة، لكن الأمر في الحقيقة جدّي وخطير لأنّ هذا التيار يسعى إلى تأسيس أحزاب سياسية عبر العالم، تدافع عن أفكاره، كما هناك تحالف قوي بين رواد ما بعد الإنسانية وشركات عالمية كبرى تؤمن بالحضارة ما بعد الإنسانية.
والمثقف العربي معنيّ بهذا الجدل الفكري والخوض فيه ونقد الفكر الـ"ما بعد الإنساني"، لأنّ الأجيال العربية آخذة في الانبهار بالتكنولوجيا والإيمان بمعجزاتها غير المحدودة، بدون تمحيص ولا قدرة على النقد، بل يشكّل ذلك تهديدًا للمنظومة الإيمانية نفسها. وبالتالي هناك حاجة إلى عدم الاستسلام أمام هذا التيار بدعوى أنّ هذا من الترف الفكري وأنّ هناك قضايا أهم.
لا شكّ أننا نواجه تحديات متعدّدة وفي غاية الخطورة، لكن يجب أن نستبصر مآلات الأجيال العربية الراهنة والقادمة، وأن ندرك بأنّ الفكر ما بعد الإنساني قادر على تشكيل ذهنيات جديدة، قابلة للانصياع لصنّاع التكنولوجيا والانسلاخ ليس فقط من الهوية العربية والإسلامية، بل الهوية الإنسانية نفسها.
(خاص "عروبة 22")