عندما أطلق الرئيس دونالد ترمب محاولته الأولى لوقف الحرب في غزة، توقع أغلب المراقبين محاولة أخرى لجعل المستحيل ممكناً. ففي النهاية، كان قد كُشف عن وقف إطلاق نار آخر مقابل إطلاق سراح الرهائن الإسرائيليين قبل بضعة أشهر، ثم فشل. لذا كانت ردود الفعل الأولية من الخبراء العالميين هي: "يا إلهي! ليس مرة أخرى!". كان الإجماع في التعليقات على أنه لا شيء أقل من خطة بنيامين نتنياهو المعلنة لـ"القضاء على (حماس) وإعادة جميع الرهائن" يمكن أن يُخمد نيران هذه الحرب.
بدا هذا التحليل مناسباً عندما تحدث ترمب نفسه عن وقف إطلاق النار مقابل عودة الرهائن. ومع ذلك، في غضون 24 ساعة فقط، تمت ترقية تلك الخطة المُكررة إلى خطة سلام ليس فقط لغزة، وإنما للشرق الأوسط بأسره. وبعد يوم واحد، تمت ترقية النسخة الجديدة من الخطة المُكررة مرة أخرى إلى ما أطلق عليه دونالد صانع الصفقات، اسم "الشرق الأوسط الجديد". سارع خصوم ترمب السياسيون إلى رفض خطته بدعوى أنها مجرد محاولة أخرى لكسب جائزة نوبل للسلام التي فاز بها باراك أوباما من دون أن يفعل شيئاً على الإطلاق. لكن يبدو أن الخطة نجحت: فقد قبلتها كل من إسرائيل و"حماس". أوقفت إسرائيل إطلاق النار، وأطلقت «حماس» سراح جميع الرهائن المتبقين دفعة واحدة. حتى صحيفة «واشنطن بوست»، غير المعروفة بمديح ترمب، اضطرت إلى الاعتراف بأن الرئيس قد قام بعمل جيد بوقف المذبحة في غزة وإنهاء مأساة الرهائن التي بدأت في تمزيق المجتمع الإسرائيلي.
ألقى ترمب خطاباً سلساً في البرلمان الإسرائيلي، وكان لافتاً للنظر بصراحته في عرض الصورة الحقيقية للوضع على الإسرائيليين، مع تأكيد التزامه الثابت بأمنهم. ولم يسبق لأي رئيس أميركي آخر أن أخبر الإسرائيليين بما يَدينون به للدعم الأميركي -فقد أشار إلى الطائرات الأميركية، واصفاً إياها بأنها "محطات وقود في السماء" تزوِّد الطائرات المقاتلة الإسرائيلية التي تهاجم أهدافاً في إيران بالوقود، وإلى التنوع المذهل للأسلحة التي تشحنها الولايات المتحدة لضمان تفوق إسرائيل على أعدائها المختلفين. لكنَّ ذلك لم يكن كل شيء. جاءت الخطوة التالية في شرم الشيخ، حيث اجتمعت 30 دولة من مختلف الأطياف للموافقة على خطة سلام من 20 نقطة لإنهاء ما عدَّه 100 أو حتى 3000 عام من الحروب والصراعات في المنطقة. وبقطع النظر عن الكيفية التي قد تنتهي بها هذه المغامرة البارزة، كان التوافق الذي تم التوصل إليه غير متوقع حقاً.
هل هناك طريقة لترمب للتعامل مع قضايا السياسة الخارجية؟ أعتقد ذلك. فقد انتهى الأمر بجميع الرؤساء الأميركيين تقريباً منذ هاري ترومان، إلى ادِّعاء "مبدأ" خاصٍّ بهم. ولم يكن لأيٍّ من هذه المذاهب تأثير كبير على مسار التاريخ. ومن غير المرجح أن يدَّعي ترمب مكاناً له في غاليري الصور هذا. ومع ذلك، أعتقد أنه يمكنه ادعاء طريقة قد تساعد الآخرين في الولايات المتحدة وخارجها. ولا بد أنه اكتسب هذه الطريقة خلال مسيرته الطويلة كرجل أعمال ومذيع تلفزيوني.
العنصر الأول في هذه الطريقة هو أن تضع الواقع دائماً قبل المثالية. صوّر العديد من الرؤساء الأميركيين -من ريتشارد نيكسون إلى جو بايدن- أنفسهم على أنهم صانعو سلام في الشرق الأوسط، ودائماً بنوايا حسنة. لكنهم دائماً ما وصفوا السلام الذي كانوا يدعون إليه بصفات مثل "عادل" و"دائم" و"منصف". تحدث بيل كلينتون عن "سلام الشجعان". لكن للأسف، الشجعان وفق هوميروس لا يصنعون السلام؛ بل يقاتلون حتى الموت مثل هيكتور. وأَمِلَ باراك أوباما في "سلام مشرِّف"، ناسياً أن الاستسلام في معركة لا يمكن كسبها هو أعلى أشكال الشرف. لا يستخدم ترمب مثل هذه المؤهلات، مما يسمح للجميع بفهم أن السلام يعني السلام. وماذا يعني السلام، عندما يتم التخلي عن الغرور الشعري؟ إنه يعني أن الحرب قد انتهت بفائز واضح ومستخدم واضح يمحو الوضع الراهن الذي أدى إلى نشوب الحرب. في الوضع الراهن الجديد الذي يجب إنشاؤه، يجب أن يكون للفائز الكلمة الأخيرة.
العنصر الثاني في هذه الطريقة هو تجنب تملق العدو بدلاً من استرضائه، مما قد يُقنعه بأنك تتصرف بدافع الضعف. كان خطاب أوباما الشهير في القاهرة أحد الأمثلة على التملق الذي يؤدي إلى الهزيمة. فقد حاول تملق جماعة "الإخوان المسلمين" من خلال مهاجمة الرئيس حسني مبارك بصورة غير مباشرة. ونحن جميعاً نعرف ما حدث بعد ذلك. من ناحية أخرى، استغل ترمب هذه المناسبة لاستعراض قوة أميركا وإرسال رسالة واضحة: نحن أقوياء بما يكفي لجعل حياتكم صعبة، ولكننا مستعدون أيضاً لدعوتكم إلى طاولة المفاوضات حتى لو كان ذلك على مقعد جانبي. كانت هذه هي الرسالة الموجهة إلى القيادة في طهران التي أضاعت الفرصة.
العنصر الثالث في هذه الطريقة هو الانطلاق إلى الصميم من خلال تحديد أقصى مطالبك. وفي هذا السياق، جعل ترمب إقامة علاقات طبيعية مع إسرائيل شرطاً لا غنى عنه للانضمام إلى مشروعه للشرق الأوسط الجديد. فيما يتعلق بإيران، تخلى ترمب عن عادة أسلافه المتمثلة في طلب المقبلات على أمل التحدث عن المسار الآخر لاحقاً. كانت المقبلات التي طلبوها تتعلق دائماً بدرجة تخصيب اليورانيوم التي يمكن أن تصل إليها إيران لصنع قنبلة تقول إنها لن تصنعها أبداً. في بعض الأحيان، كان الرؤساء الأميركيون يتحدثون أيضاً عن "حقوق الإنسان" التي يمكن أن تعني أشياء مختلفة لأشخاص مختلفين. على سبيل المثال، كان محمد جواد ظريف، وزير الخارجية الإيراني السابق، يُذكّر دائماً صديقه الأميركي جون كيري، بأن طهران تتمتع بأعلى درجات حقوق الإنسان.
ترمب لا يتجاهل القضايا الحقيقية. إنه يطالب طهران بإقامة علاقات مع إسرائيل، وإنهاء مشروعها للصواريخ بعيدة المدى، والتخلي عن البُعد العسكري المحتمل لبرنامجها النووي. في المقابل، يَعِدُ بتخفيف العقوبات على إيران بهدف إنهائها إذا اضطلعت طهران بدورها في الاتفاق. والأهم من ذلك، ربما، أنه يَعِدُ ضمناً بمنع أي هجوم إسرائيلي آخر على إيران إذا قبلت طهران الاتفاق المطروح. طريقة ترمب تتسم بطابعها الأصيل أيضاً لأنها تتحايل على المؤسسات الرسمية من دون استبعادها. يقوم أفراد عائلته ومستشاروه المقربون بالإضافة إلى كبار المتبرعين لحملته الانتخابية بالأعمال التمهيدية، فيما توفِّر وزارتا الخارجية والبنتاغون وأجهزةُ الأمن الدعمَ اللوجيستي.
تُذكرنا هذه الطريقة بأفلام السفر من حقبة سبعينات القرن الماضي، حيث كان أبطالها يعرفون إلى أين يريدون الذهاب، لكنهم لم يلتزموا بخريطة طريق مفصَّلة. في أفلام السفر هذه، كان المسافرون يَضِلُّون طريقهم وينتهي بهم المطاف في مكان آخر. لكن في هذه الحالة، قد يكون المكان الذي ينتهي بهم المطاف إليه أفضل مما كانت عليه الأمور خلال العامين المأساويين الماضيين.
(الشرق الأوسط)