تطرّقَت في كتابها هذا لقضايا حسّاسة، ذات صلة في حقول السياسة والأمن والاقتصاد، وما يمكن أن تقدّمه الثورة الرقمية اليوم، وفي مقدّمتها الذكاء الاصطناعي، في سياق خدمة الصّالح العام محليًّا وإقليميًّا، فالأحرى دور الثورة نفسِها في الصراعات الإقليمية والاستراتيجية، بخاصّةٍ الصراعات القائمة بين القوى العظمى. ولهذا، سلّطت المؤلّفة الضوء على تبعات التحوّل من الاستخدامات المدنية للثورة الرقمية إلى الاستخدامات العسكرية، من قبيل استخدام الأسلحة عن بُعد والطائرات من دون طيار، على خلفيّة تجدّد الحرب الباردة مع الصين كبديل وظيفي للاتحاد السوفياتي.
شركات التكنولوجيا الكبرى تتقدّم بخطى سريعة نحو التحكّم في الدماغ والبيولوجيا والفضاء
بعد سنة ونيّف من كتابها أعلاه، سوف تُصدر عملًا جديدًا لا يقلّ أهميةً عن العمل السابق وفي السياق نفسِه، مع رهانٍ على التوعية والتحذير:
ــ التوعية بخصوص تبعات تحالف صُنّاع القرار في العالم مع الشركات الرقمية، وفي مقدمتها إمبراطوريات الـ"غافام" (GAFAM)، أي "غوغل" و"آبل" و"فيسبوك" و"أمازون" و"مايكروسوفت" ضمن إمبراطوريات أخرى، مع التركيز في باب صُنّاع القرار على الإدارة الأميركية بالدرجة الأولى. أمّا رؤساء ومديرو تلك الإمبراطوريات، فالإحالة إلى إيلون ماسك وسام ألتمان وبيتر ثيل ومارك زوكربيرغ وغيرهم.
ــ التحذير، لأنّها تحذّر من تبعات هذا التحالف، وهذا ما يتضمّنه الكتاب وما جاء أيضًا في أغلب الحوارات التي أجريت معها في المنابر الإعلامية الفرنسية مؤخّرًا على هامش صدور العمل. ومن بين التحذيرات التي جاءت في الكتاب، التنبيه إلى أنّ "شركات التكنولوجيا الكبرى تتقدّم بخطى سريعة نحو التحكّم في الدماغ، والبيولوجيا، والفضاء، خصوصًا أنّها لم تَعُدْ تفكّر في العالم بمصطلحات الدول القومية، بل بمصطلحات البُنى التحتية العالمية، الفتوحات المجرية، السيطرة على البيانات. وبينما تقوم بخصخصة المستقبل، نظلّ عالقين في أزمة سياسية ومؤسّسية تمنع أيّ استجابة نظامية".
يتطرّق كتابها حديث الإصدار وعنوانه "سايبربانك، النظام الشمولي الجديد" (Cyberpunk - Le nouveau système totalitaire) إلى تحالف خبراء التكنولوجيا ومَن اصطلحت على تسميتهم بالساسة الرجعيين. وحسب الباحثة، نحن "إزاء تحالف تكنولوجي ــ سياسي أنجب كائنًا ذا رأسَيْن يَعِدُ بإعادة تشكيل المشهد السياسي الأميركي بشكلٍ دائمٍ"، بحيث نتّجه نحو "منظومةٍ فاشيةٍ تُنذر بتحوّل أعمق، أو نظام جديد، هجين، يتلاشى فيه دور الدولة، من أجل التحكّم بشكل أفضل في كلّ شيء"، إلى درجة حديثها عن "الفاشية ما بعد الحديثة التي تجمع بين الدولة الكبيرة والتكنولوجيا الكبرى وتقوّض قدرتنا على التفكير في المستقبل البعيد".
تستلهم المؤلّفة في معرض اختيارها عنوان الكتاب، من أعمالٍ أدبيةٍ عدّةٍ، وفي مقدمتها رواية "1984" لجورج أورويل، أو "المؤسّسة" لإسحاق أسيموف، و"بليد رانر" لفيليب ديك، وهي روايات اتضح أنّها كانت استشرافية، بدليل أنّ ما نُعاينه اليوم عمليًا في العديد من بقاع المعمور، كان حاضرًا بشكلٍ أو بآخر في هذه الأعمال. منها على سبيل المثال، معضلة المدن فائقة الاكتظاظ ومخاطر التلوّث، والشعور بالعجز والوحدة، وإمبراطوريات رأسمالية عملاقة غامضة ذات سلطات شبه مطلقة.
هذه الكوابيس اليومية المرتبطة بالفورة الرقمية، والتي أصبحت تحظى بدعم صُنّاع القرار بمقتضى التحالف سالف الذّكر، تمهّد حسب أسماء مهلّا، إلى "واقع ديستوبي"، ولهذا حرّرت هذا الكتاب لكي يفقه القرّاء أنّ هذه الانحرافات في أداء السلطة والتي تعزّزت بالتحالف مع الإمبراطوريات الرقمية، "ليست مسألةً نظريةً وإنّما أصبحت مستقبلًا قادمًا. لم تعد القضية خيالًا علميًا، بل إنّه العالم الذي نعيش فيه، حيث تقوم شركات التكنولوجيا الكبيرة بخصخصة المستقبل، وتُصبح رؤاها المُشبعة وغير المتناسبة أفق الجميع".
أدمغة الإنسان المعاصر تخوض "حربًا معرفية"
بلورت المؤلفة في كتابها "الشمولية المعرفية" ("التوتاليتارية المعرفية")، انطلاقًا من أحد أعمال المفكّر الإيطالي جورجيو غريزيوتي (Giorgio Griziotti)، والحديث عن كتابه "رأسمالية الأعصاب، القوى الرقمية والجماهير" (2018)، وهي شمولية معرفية "تتجاوز التفكير الفردي بكثير، لأنّها تُشير إلى طريقةٍ لحكم العقول والذاتيات عبر البُنى التحتية التكنولوجية". وتصطلح على هذا النظام بـ"دولة الحدّ الأدنى الشمولية"، حيث "توسّع الدولة سلطتها من خلال التقنيات الرقمية مقابل التقليص من مكانة المواطن/الفرد، وبالنتيجة، لم تعد الدولة تحمي، بل تستبعد وتمحو أولئك الذين يُنظر إليهم على أنّهم يعارضون أو يستفسرون عن غموض الأداء باسم اللجوء إلى خدمات الخوارزميات من دون إمكانيّة مُساءلة".
يُعتبر عالم الصور والمحتويات الرقمية من بين أهمّ المجالات التي تتطلّب وقفات تأمّل وتوعية حسب أسماء مهلّا، ومردّ ذلك أنّ أدمغة الإنسان المعاصر تخوض "حربًا معرفيةً"، وتتعرّض لـ"هجوم مباشر، على اعتبار أنّنا مُشبعون بالمحتوى والصور والتجاوزات، ولم نعد قادرين على الابتعاد عمّا يحدث لنا، كأنّها حرب الإدراك، لم تعد ترى بوضوح، ولم يعد لديك وقت للتفكير".
وتمرّ هذه الحرب بثلاثة ينابيع؛ أولًا، "التشبّع المعرفي"، الذي يمنعنا من التفكير بشكلٍ مختلفٍ عمّا تصبو إليه تلك الإمبراطوريات؛ ثم "الربط المزدوج" أو "القيد المزدوج". تضرب أسماء مهلّا مثالًا مع التفاعلات الرقمية المرتبطة بمواقف الرئيس الأميركي، لأنّه "إذا لم تُعلّق على تجاوزاته، فإنّك مهدّد رقميًا بفقدان نوعية معيّنة من الأخبار، وإذا علّقت عليها، فإنك تُضفي الشرعية عليها. في كلتا الحالتين، أنت في مقام الهزيمة". وأخيرًا، التذكير بإشارةٍ صدرت يومًا عن جورج أورويل، مفادها الاعتقاد بأنّ هناك سلامًا بالقوة، بمعنى أنّ العنف سيُصبح شكلًا من أشكال الاستقرار.
(خاص "عروبة 22")