صحافة

السلام المستحيل.. مسؤوليات ما بعد الاتفاق

محمد السعيد إدريس

المشاركة
السلام المستحيل.. مسؤوليات ما بعد الاتفاق

الفرحة بتوقيع "اتفاق شرم الشيخ للسلام" تجاوزت كل الحدود، كانت فرحة، ومازالت، بحجم المعاناة الهائلة التي تعرض لها الشعب الفلسطيني في قطاع غزة، لكن، وهذا هو الأهم، ظل الشغل الشاغل، ومازال أيضا، هو عدم وجود اليقين الذي يؤكد أن الاتفاق سيتحقق، بكل مراحله بعد أن يكتمل إنجاز المرحلة الأولى من هذا الاتفاق. نتحدث عن "غياب اليقين" أو "عدم اليقين" ونحن على وعي بأن هذا الاتفاق وخلفيته السياسية، ونعني خطة الرئيس ترامب "مفعمين بالغموض" الذي يصل إلى حد ملامسة ما يمكن اعتباره "خطايا" بحق الشعب الفلسيطني.

وأبرزها بالطبع اختزال القضية الفلسطينية في "ملف إنساني – إغاثي" وتغييب جوهرها السياسي كقضية تحرر وطني، وكقضية حق تقرير المصير، الذي يقر ويدعم حق الدفاع عن النفس والمقاومة بكل صورها، وتجاهل كل الأطراف، ربما باستثناء مصر، التي حرص رئيسها الرئيس عبدالفتاح السيسي على أن يؤكد فى كلمته حتمية قيام الدولة الفلسطينية باعتبارها الطريق المأمون للسلام. غياب اليقين هذا بدأ مع تلاعب إدارة ترامب بأكثر من صيغة طرحتها بشأن الحل المقترح: صيغة تضمنت 20 بندًا وأخرى تضمنت 21 بندًا وثالثة تضمنت 22 بندًا، وكان السؤال الذي فرض نفسه هو أي صيغة منها سيجرى اعتمادها: هل الصيغة التي طرحت فى اجتماع نيويورك مع القادة المسؤولين العرب والمسلمين؟ أم الصيغة التي طرحت بعد اجتماعه في واشنطن مع نيتانياهو (النسخة المنقحة)، التي تؤكد الصلاحيات الأمنية لإسرائيل في قطاع غزة، ونزع سلاح حماس (وليس تجميده على نحو ما ترى مصر، أو تسليمه إلى الدولة الفلسطينية المأمولة كما تريد حماس وفصائل المقاومة الأخرى)؟.

وامتد "عدم اليقين" إلى إصرار دوائر سياسية وإعلامية إسرائيلية على تأكيد وجود "بنود سرية" في خطة ترامب، ووجود "ملاحق سرية" تشمل مراحل تبادل الأسرى، والانسحاب التدريجي، وإعادة الإعمار، إلى جانب ما سموه "آليات الطوارئ" التي تهدف إلى التعامل مع أي إخلال ببنود الاتفاق، مثل تأخير تسليم الرهائن أو الجثامين، أو تهرب حركة "حماس" من مسؤولية نزع أسلحتها، الأمر الذي قد يفرض إعادة انتشار القوات الإسرائيلية في القطاع. الخطر الأهم الذي يتهدد الاتفاق ويتجاوز غموضه المتعمد هو "الثمن" الذي يريد نيتانياهو، مدعومًا من ترامب، الحصول عليه للانخراط في القبول بالاتفاق وتنفيذه. هناك أكثر من تصور لمثل هذا "الثمن" تبدأ من دعوة ترامب في الكنسيت "البرلمان" الإسرائيلى بإعفاء نيتانياهو وعدم محاكمته في القضايا المتهم بها، وتمتد إلى معارضة ترامب ضم إسرائيل الضفة الغربية "شكليًا" كما هو في خطته، مع التمادي في دعمه إسرائيل بكل قوة لتفعل ما تشاء وبالتحديد في موضوعي إعلان احتلال الضفة وتحويله من قرار إلى "واقع ملموس"، وإعاقة أي إجراء للأخذ بدعوة إقامة الدولة الفلسطينية التي تعمد نيتانياهو بتحويلها إلى "مستحيل".

وتكتمل بمطالبة ترامب الدول العربية والإسلامية بتوسيع دائرة ما يسميه "السلام الإبراهيمي"، فقد أكد أن الاتفاق "يتجاوز غزة، فهو يمثل سلامًا فى الشرق الأوسط"، وعاد يوم الجمعة الماضي (17/10/2025)، ليعلن أنه "يتوقع انضمام دول أخرى لاتفاقيات ابراهام قريبًا". عدم اليقين هذا بجدية الالتزام الإسرائيلي والأمريكي بتنفيذ الاتفاق رغم كل ما به من مثالب وغموض وتجاوزات أخذ يفرض التساؤل: هل ستكون هناك مرحلة ثانية، ومن ثم مرحلة ثالثة في هذا الاتفاق بعد انقضاء المرحلة الأولى وحصول نيتانياهو وحكومته على كل ما يأملونه: أي تسلم الأسرى والجثامين، ومن ثم إفقاد حركة "حماس" ورقة الضغط الأساسية لديها؟ السؤال مهم، لكن يصعب الإجابة عنه بـ "نعم" أو "لا"، لكن الأهم هو كيف يمكن إلزام إسرائيل والولايات المتحدة بتنفيذ الاتفاق؟ الإجابة عن هذا السؤال هي الكفيلة بتحويل السلام المستحيل، إلى سلام ممكن وذلك عبر عمل الدول الضامنة الثلاث: مصر وتركيا وقطر على خطة عمل مضادة، تتشارك في دعمها والانخراط فيها كل الدول العربية والدول الإسلامية المعنية تشمل ثلاثة مستويات:

المستوى الأول: ويستهدف تحصين الاتفاق من خلال مشروع قرار يدفع به إلى مجلس الأمن، لإصدار قرار بالاتفاق الذي جرى توقيعه في شرم الشيخ، وأي تردد أمريكي في دعم هذا المشروع سيكون بمثابة تراجع عملي عن الاتفاق يجب مواجهته من كل هذه الدول العربية والإسلامية، والهدف من هذا التحرك هو قطع الطريق على أي محاولة للتنصل أو التلاعب بالالتزامات.

المستوى الثاني: عدم تمكين إسرائيل من جني ثمار وقف الحرب لاستعادة مصداقيتها ومكانتها الدولية، وذلك بفتح الأبواب واسعة أمام الإعلام العالمي للدخول إلى قطاع غزة، وتوثيق ونشر حجم ونوعية الدمار الهائل الذي أحدثته آلة الحرب الإسرائيلية للإنسان والجماد على قطاع غزة، لتضخيم الثمن الذيي يجب أن تدفعه إسرائيل لجرائمها، انطلاقًا من قناعة مهمة مفادها أن المعركة القادمة مع إسرائيل وأصدقائها ستكون في "ساحة الوعي" أكثر من "ساحة القتال". حذر من هذا الخطر على إسرائيل المحلل السياسي الإسرائيلي إيتمار إيخنر في مقال نشرته صحيفة "يديعوت أحرونوت" قال فيه إن الأيام المقبلة "ستشهد موجة عالمية من مشاهد توثق دمارًا هائلًا في قطاع غزة، والتي ستهيمن على المشهد الإعلامي الدولي لفترة طويلة، من شأنها إجهاض كل ما تبذله إسرائيل من حملات إعلامية تستهدف استعادة الثقة الدولية بعد قبولها بإيقاف الحرب على قطاع غزة".

المستوى الثالث: تحقيق أعلى قدر من التماسك والتوحد في الموقف الفلسطيني بين تيار المقاومة الذى تقوده حركة :"ماس" وحركة الجهاد الإسلامى والجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، وبين حركة "فتح" وعلى رأسها السلطة الفلسطينية وشخص رئيسها محمود عباس "أبو مازن"، ومنع أي صراع على السلطة أو تفجر مواجهة فلسطينية – فلسطينية، حول قضيتي سلاح حركة "حماس" وإدارة القطاع، كبنود أساسية في اتفاق السلام الذي جرى توقيعه في شرم الشيخ، فالتوافق الفلسطيني هو مدخل أي نجاح لأي مشروع سلام، وهو الكفيل بجعل "السلام المستحيل" فرصًا مواتية.

(الأهرام المصرية)

يتم التصفح الآن