قام الرئيس السوري المؤقت أحمد الشرع بأول زيارة لروسيا في 5 أكتوبر 2025 برفقة وزير الخارجية أسعد الشيباني، ومسؤولون عسكريون واقتصاديون، وذلك من أجل وضع الطرفين السوري والروسي أساسا مشتركا لإطلاق مرحلة إعادة بناء العلاقات بين البلدين على أسس تختلف عن ما كانت عليه في عهد نظام بشار الأسد. وأن يكون التعاون بين روسيا والنظام السوري الجديد قائما على الاحترام المتبادل والمصالح المشتركة وعدم التدخل في الشؤون الداخلية لكلا الطرفين.
اتخذت العلاقات بين موسكو ودمشق منذ سقوط نظام الأسد فى 8 ديسمبر 2024، مسارا اتسم بالحذر والتأني من كلا الجانبين، الحذر حيث كانت الفصائل المسلحة بقيادة جبهة تحرير الشام التي يقودها أحمد الشرع في حالة حرب ضد القوات الروسية التى كانت تدعم نظام الأسد الذي أعطى لروسيا ولقاعدتيها العسكريتين في سوريا، القاعدة البحرية في طرطوس والقاعدة الجوية في حميميم، مزايا عديدة وحرية عمل تشمل كل المجال البحري والبري والجوي السوري، والتي توقفت بسقوط نظام الأسد. والتأني لحرص روسيا على الإبقاء على قاعدتيها العسكريتين في سوريا باعتبارهما من أهم مكاسب الوجود العسكري الروسي في البحر المتوسط والشرق الأوسط. وحرص النظام السوري الجديد على عدم استعداء روسيا من ناحية، وموازنة علاقاته مع القوى الإقليمية والدولية الأخرى إذا اقتضى الأمر ذلك وتعرض لضغوط ومطالب لا يرضاها ويصعب عليه قبولها.
قام النظام السوري الجديد بمراجعة وتقييم مجمل العلاقات السورية الروسية على مدى سنوات طويلة من حكم عائلة الأسد، ووجد أن روسيا سبق أن وقعت عدة عقود واتفاقات باستثمارات في مجال الطاقة البترول والغاز، واستخراج الفوسفات حيث تعد سوريا خامس دولة في العالم في إنتاجه، والتبادل التجاري، وتسليح الجيش السوري الذي انضمت أعداد كبيرة منه إلى الجيش الذي كونه النظام السورى الجديد. وأبدت دمشق رغبتها في استمرار العمل بهذه العقود والاتفاقيات، وإن اقتضى الأمر تعديل أو تغيير بعض بنودها. كما أن لروسيا ديونا على سوريا، ونادت بعض الآراء السورية بأن روسيا مطالبة بتعويضات عن الأضرار الجسيمة التي لحقت بسوريا وشعبها نتيجة إطالة أمد الصراع لحماية نظام دكتاتوري كان يتعين إسقاطه دون تكبد كل هذا الدمار وتشتيت الشعب السوري ما بين نازحين فى الداخل ومهاجرين في الخارج. وتطالب بعض الآراء بإمكانية إلغاء الديون لروسيا بدلاً من التعويضات.
وقد شهدت الفترة السابقة على الزيارة تبادل الزيارات بين موسكو ودمشق، حيث زار ميخائيل بوجدانوف نائب وزير الخارجية الروسى سوريا في 28 يناير 2025، وأجرى الرئيس بوتين اتصالًا هاتفيا مع الرئيس الشرع أكد فيه دعمه لوحدة الأراضى السورية وسيادتها. وزار وزير الخارجية السوري أسعد الشيبانى موسكو في يوليو 2025 والتقى خلال الزيارة مع الرئيس بوتين، وكان يرافقه وزير الدفاع السوري مرهف أبو قصرة. وبحث الوفد مع المسئولين الروس العلاقات السياسية والعسكرية والأمنية بين البلدين. وعقد في دمشق فى 9 سبتمبر 2025 اجتماع روسي سوري، ورأس الجانب الروسي نائب رئيس الوزراء ألكسندر نوفاك، ورأس الجانب السوري وزير الخارجية أسعد الشيبانى، وتم بحث كل جوانب العلاقات والقضايا المعلقة بين البلدين في إطار من روح التفاهم والرغبة المشتركة في إعادة تنشيط العلاقات على أسس ورؤى جديدة.
ويلاحظ أنه، منذ سقوط نظام الأسد، تحرص روسيا على توجيه رسائل إيجابية للنظام السورى الجديد، وتؤكد على أهمية الانطلاق من الإرث العميق للصداقة بين الشعبين الروسي والسوري للحفاظ على المكتسبات والمنجزات والمضي قدما إلى الأمام لإيجاد مناخ للتعاون البناء، واعتبار أن من أولويات سياستها الخارجية استمرار العلاقات مع سوريا. ولقي الرئيس الشرع والوفد المرافق حفاوة روسية بالغة من ناحية، وأحيطت المباحثات سواء بين الرئيسين بوتين والشرع، أو بين أعضاء الوفد السوري ونظرائه الروس، بكتمان شديد وتوافق بين الطرفين على طى صفحة الماضى وإطلاق مرحلة جديدة لاستعادة نشاط العلاقات الثنائية. وأشار بوتين إلى أن العلاقات مع سوريا على مدى عقود اتسمت دائما بطابع ودي واستثنائي، وأكد على رغبة روسيا فى إجراء مشاورات منتظمة مع القيادة السورية، وأنه قد مضى نحو 80 عاما على تأسيس العلاقات بين البلدين فى عام 1944، وأشار إلى الانتخابات التشريعية التي أجريت فى سوريا مؤخرا واعتبرها نجاحا كبيرا للقيادة السورية الجديدة رغم ما تمر به سوريا داخليا من أوقات صعبة.
وأكد الشرع أن سوريا ستسعى جاهدة إلى تجديد علاقاتها مع روسيا والتركيز على الاستقرار في سوريا والمنطقة، وأن البلدان يتشاركان جسور تعاون مهمة. وأكد على أن سوريا ستبقى على كل ما مضى من اتفاقيات، على أن تكون هناك استقلالية للحالة السورية وسلامة ووحدة أراضيها واستقرارها الأمني المرتبط بالاستقرار الإقليمي والعالمي. هذا وقد سبق أن أدلى الشرع بحديث تلفزيونى لشبكة "بي بي سي" قال فيه إن اتصالات سوريا مع كل من الصين وروسيا لا تتعارض مع العلاقات السورية مع الغرب والولايات المتحدة الأمريكية. وهذا التصريح يعبر عن تحسب مستتر من أن يؤدى تحول هذه الاتصالات إلى توثيق العلاقات السورية مع كل من الصين وروسيا، إلى نتائج سلبية على الموقف الغربي والأمريكي الذى تقبل وتعامل مع النظام السوري الجديد وقدم وعودا نفذ بعضا منها برفع بعض العقوبات عن سوريا مع بعض الاشتراطات لرفع باقي العقوبات، الأمر الذى يجعل العلاقات بين النظام السوري الجديد والغرب والولايات المتحدة الأمريكية مشوبة بالحذر والترقب على الجانبين.
اتفق الجانبان الروسي والسوري على إعادة إطلاق عمل اللجنة الحكومية المشتركة وأن تعقد اجتماعًا قريبًا، خاصة وأن دمشق مهتمة بإعادة تأهيل البنى التحتية للطاقة مع استعداد روسيا لمواصلة العمل في حقول البترول والغاز سواء البرية أو البحرية، وتحتاج هذه الحقول إلى تطوير وتجديد، والاستعداد لتطوير البنى التحتية لشبكات النقل السورية. كما تم التوافق على أن ترسل روسيا إمدادات مهمة من المواد الغذائية، خاصة وأن جزءا كبيرا من احتياجات سوريا يعتمد على الواردات الروسية. وتوافق الجانبان على إجراء حوار هادئ فيما يتعلق بالديون الروسية المستحقة على سوريا. هذا إلى جانب إسهام روسيا في تطوير الرعاية الصحية، والمجال الثقافي والسياحي في سوريا ولدى موسكو اهتمام كبير بأن يكون لها دور في عملية إعادة الإعمار في البنية الأساسية السورية التي دمرتها الحرب وما تبقى منها أصبح قديما ومتهالكا، وذلك إزاء إبعاد إيران حاليا عن عملية إعادة الإعمار والتي كانت تنافس روسيا على النفوذ في سوريا أثناء حكم نظام الأسد.
لقد تغلبت المصالح على عداوة وخلافات الماضي، وإن حرص روسيا على الإبقاء على قواعدها العسكرية فى سوريا جعلها على استعداد لإعادة صياغة الاتفاق الخاص بهذه القواعد بحيث لا يكون مصرحا لها التدخل في الشؤون الداخلية السورية أو القيام بأعمال من شأنها إثارة مشاكل لسوريا سواء مع جيرانها أو مع القوى الغربية والأمريكية. ويتوقع ترحيب روسيا بذلك وبما يطلبه النظام السوري الجديد من أجل الإبقاء على هذه القواعد وحتى لا يضيع كل ما قدمته لسوريا في السنوات السابقة.
أما النظام السوري الجديد، فإنه يواجه مواقف وتحديات معقدة للغاية داخليا بخلافات مع الأقليات الدرزية والكردية والعلوية السورية، وعدم القدرة على الحد من نفوذ تركي متزايد سياسيًا واقتصاديًا مع احتلال القوات التركية أجزاء من شمال سوريا دون تقديم أي مساعدة لصد أو للحد من الاعتداءات الإسرائيلية المتكررة ومطالبة إسرائيل بنزع السلاح في كل المنطقة الجنوبية من سوريا مع استمرار احتلالها للجولان ومناطق جديدة استراتيجية وتحريضها للدروز. والاشتراطات الدولية والإقليمية بأن يكون النظام السوري، سواء في مرحلته الانتقالية أو ما بعدها، مشاركا فيه بفاعلية كل طوائف ومكونات الشعب السوري، وهو مطلب يختلف مع توجهات جبهة تحرير الشام والفصائل الحاكمة معها من صياغة نظام سوري وفق رؤيتها وعقيدتها الكامنة والتي لم يخفها ما يبديه النظام الجديد من مرونة خارجية لا تطبق داخليا.
لذا فإن التوجه إلى روسيا لإحياء التعاون معها يخدم النظام السوري الجديد اقتصاديا وتجاريا وسياسيا ويحقق له نوعا من التوازن في علاقاته الخارجية، وهو ما يلقى إقبالا وترحيبا من روسيا للإبقاء على وجودها فى سوريا الذي يعزز وجودها في الشرق الأوسط.
(الشروق المصرية)

