تقدير موقف

غزة والفاشر... وما بينهما!

ثمّ كان بعد عامَيْن من المشاهد المروّعة أن احتَلّ إقليمٌ عربيّ آخرٌ مكان غزّة، ومأساتها الإنسانية (والسياسية - العربية) - كخبرٍ أوّل في نشرات الأخبار العالمية. ومع اختلاف التفاصيل، وصورة "المجرم"، وإن كانت حقيقته "استراتيجيًا" واحدة، سمع متابعو الأخبار في أركان العالم أجمع عن "الفاشر" ودارفور، بعد أن كانوا قد عرفوا بجباليا، ودير البلح، ورفح، وخان يونس. بالمناسبة، وبلغة الأرقام احتلّ الوضع في غزّة، ثم الوضع في السودان جدول أعمال ما يزيد عن 100 من اجتماعات مجلس الأمن منذ السابع من أكتوبر/تشرين الأول 2023... يا لها من "حالةٍ عربيةٍ" تستوجب ما هو أكثر من مجرّد الأسف.

غزة والفاشر... وما بينهما!

في غزّة سبقت التحيّزات المُسبقة من هذا التيار أو ذاك، إدراك الخطر "الحقيقي" على أمن "الجميع"... وفي الفاشر، وفضلًا عن حسابات "الضعف" لقوى عربية كانت يومًا "مركزيةً"، سبقت الأطماع، والمنافسات المريضة وما تفرضه من تحيّزاتٍ لا يجهلها أحد، إدراك حقيقة أنّ "جميعنا" سندفع ثمن ما يجري (أو سيجري) في السودان.

غاب مفهوم الأمن القومي الواحد عن الأنظمة وغاب المفهوم "الجامع" عن عامّة الناس الذين انجرفوا إلى فخ "الاستقطاب"

جميعُهم تواطأوا بشكلٍ أو بآخر، وبحسن نيّةٍ أو من دونها على البلد الطيب، حينما خشوا عدوى حريته وديموقراطيته "المدنية"، فوأدوها مبكرًا، فصرنا إلى ما صرنا إليه.. صراعًا على السلطة بين "الجنرالات"، والذي كانت بدايته الحقيقية، يوم اتفق (المتحاربون اليوم) على قطع الطريق إلى دولةٍ مدنيةٍ معاصرةٍ، ليخرج أحدهم في أبريل/نيسان 2019 بالتصريح المحفوظ: "لسنا انقلابًا عسكريًا... ولسنا طامعين في السلطة".

في غزّة، غاب مفهوم الأمن القومي العربي (الواحد) عن الأنظمة، التي تقاعست أو توارت، أو تلك التي قصر نظرها عن رؤية "حقيقة العدو"، فانشغلت بمعاركها الصغيرة مع هذا الفصيل السياسي - الفكري أو ذاك، الذي توقفوا عند كونه منافسًا، أو مُهدّدًا لكرسي العرش. كما غاب المفهوم "الجامع" أيضًا للأسف عن عامّة الناس، الذين انجرفوا إلى فخ "استقطاب" أجّجه الذباب الإلكتروني، فتفرّغوا لتبادل الاتهامات.

أصبح اسم المنطقة "الشرق الأوسط" بدلًا ممّا عرفناه "عالمًا عربيًا" تربطه أواصر اللغة ووحدة المصير والثقافة المشتركة

وفي الفاشر، غاب مفهوم الأمن القومي العربي (الواحد) عن أولئك الباحثين عن نفوذٍ إقليميّ لن يكون له واقعيًا قيمةً أو مكانًا، إن مضى مخطّط النفوذ الإسرائيلي إلى نهايته.

غاب مفهوم الأمن القومي العربي (الواحد) حين غاب عنّا ما يُخطّطه "الآخرون" لهذه المنطقة، التي أصبح اسمها "الشرق الأوسط"؛ جديدًا كان أو غير ذلك، بدلًا ممّا عرفناه لعقودٍ "عالمًا عربيًا"، تربطه أواصر اللغة، ووحدة المصير، والثقافة المشتركة.

لم يعد خافيًا أنّ ما يجري في غزّة هو في القلب من هذا المُخطّط، وكتبنا عن هذا (هنا) مرارًا، وتكرارًا، وتفصيلًا، ولكن هل تعلمون أين يقع السودان؟.

لا أعلم مدى دقّة ما تسرّب عن محاضرةٍ في معهد أبحاث الأمن القومي الإسرائيلي (أغسطس/آب 2008) ألقاها آفي ديختر (Avi Dichter)؛ وزير الأمن الإسرائيلي آنذاك، عن الاستراتيجية الإسرائيلية في المنطقة، والتي أشار فيها إلى السودان بموارده ومساحته الشاسعة، وإلى خطورة أنّه يشكّل "عمقًا استراتيجيًّا لمصر، كما تبدّى بعد حرب 1967، بتوفيره قواعد تدريب وإيواء لسلاح الجو المصري، ممّا يجعل من إضعافه وتجزئة مساحته الشاسعة ضرورةً من ضرورات الأمن القومي الإسرائيلي".

أكرّر: ربّما لا أعلم مدى الدقّة، أو قدر المبالغة فيما نُسِبَ إلى المسؤول الأمني الإسرائيلي، كما عزّ عليّ الوصول إلى نصٍّ "مُوثّقٍ" لمحاضرته "الاستراتيجية" تلك، ولكنّي أعلم يقينًا ما يُخطّط له الإسرائيليون لمنطقتنا، والتي يتفق الرئيس الأميركي الجامح دونالد ترامب مع أهدافها النهائية، وإن "باع" من التضليل قدرًا مُعتبرًا من اختلافاتٍ "دعائيةٍ" يُجيدها السماسرة حين يتباين المشترون المُحتمَلون.

لا يُطيق الإسرائيليون مسمّى أو مفهوم "العالم العربي"، ولا ما يذكّرهم به من أجواء الستينيّات. فهم لا يريدون أن يبدوا هكذا "أغيارًا" وسط هذا المحيط المُتجانس بما يعنيه المصطلح من دلالاتٍ توراتيةٍ لا يرغبون فيها.

يغيب مفهوم الأمن القومي العربي، حين يغيب عنّا ما يخطط له الإسرائيليون.

في غزّة، كما في سوريا، وكما في لبنان غاب مفهوم الأمن القومي (العربي) حين أجهض بعضهم محاولة إنشاء قوةٍ عربيةٍ "مشتركةٍ" قبل يومٍ واحدٍ من اجتماع مجلس الدفاع المشترك لاعتماد التفاصيل. يومها (أغسطس/آب 2015)، ورغم أنف قرار "على مستوى القمة" في 29 مارس/آذار من العام ذاته ينصّ على "إنشاء قوة عربية مشتركة لصيانة الأمن القومي العربي التزامًا بميثاق الجامعة العربية، والوثائق العربية ذات الصلة، بما فيها معاهدة الدفاع العربي المشترك…"، وبعد أن كانت الصحف قد نشرت البروتوكول؛ المتفق عليه، وبعد أن كان رؤساء الأركان العرب قد وصلوا إلى القاهرة فعلًا لتوقيعه، تمّ تأجيل الاجتماع إلى موعدٍ "يُحدَّد لاحقًا"... عشر سنواتٍ مضت، ولم يأتِ "لاحقًا" هذا. خمسة وسبعون عامًا مضت على توقيع معاهدة الدفاع المشترك (يونيو/حزيران 1950)، ولم يتمّ تفعيلها "عمليًّا" بإنشاء آليةٍ تعمل على تحقيق الغرض منها، فباتت واقعيًا حبرًا على ورق، على الرَّغم من الاهتمام الشكلي بإيداع وثائق التصديق عليها لدى الأمانة العامة لجامعة الدول العربية، كما تنصّ مادتها الـ13.

تغييب الديموقراطية لم يكن أبدًا في صالح الأمن القومي العربي إن أحسَنّا قراءة درس سقوط جدار برلين

غاب مفهوم الأمن القومي العربي، حين أشعل بعضهم صراع نفوذٍ؛ لا مصلحة لهذا أو ذاك فيه بين ما أسموه دول المركز ودول الهامش، من دون إدراكٍ لحقيقة أنّ هذا بما لديه ينبغي أن يُكمل ذاك، ومن دون إدراك الحقيقة "الهندسية" شديدة البساطة، والتي تقول "لا مركز بلا هوامش، ولا هوامش بلا مركز".

غاب الأمن القومي العربي حين سبقت تحيّزاتنا المُسبقة، إدراكًا واجبًا لحقيقة الخطر، ومن أين يأتي.

قد تختلف التفاصيل، وهي جدّ مختلفة. ولكن الانقلاب على الديموقراطية، إن بمحاولة الالتفاف على نتائج انتخاباتٍ ديموقراطيةٍ في غزّة (2006)، أو بإجهاض محاولة بناء دولةٍ مدنيةٍ ديموقراطيةٍ لكلّ مواطنيها في السودان (2019)، أو بما شابه ذلك في غير قُطرٍ عربيّ من تغييبٍ لديموقراطيةٍ لا بديل عنها لقوة الدولة، لم يكن أبدًا في صالح الأمن القومي العربي إن أحسَنّا فهم ما يعنيه الأمن القومي، وإن أحسَنّا قراءة درس سقوط جدار برلين، وما يعنيه هذا السقوط.

العدو وإن تباينت أقنعته يستثمر في التشرذم والانقسام

قد تختلف التفاصيل، ولكن هذا لا ينفي أبدًا حقيقة أنّ في الانقسام والاستقطاب ضعف، وأنّ العدو، وإن تباينت أقنعته، يستثمر في هذا التشرذم والانقسام.

قد تختلف التفاصيل، ولكن "عصبية الجاهلية" واحدة، حين يقف هذا أو ذاك؛ سرًا أو جهرًا إلى جانب العدو ومخطّطاته نكايةً في هذا التيار السياسي أو ذاك. وحين يساند هذا أو ذاك فصيلًا بعينه، من دون أن يلتفت إلى خطورة ما ستؤدّي إليه تلك المساندة "العسكرية المفتوحة" من احترابٍ أهليّ، لا نتيجة له في نهاية المطاف غير إضعاف الدولة، إن لم يكن تقسيمها، وما يعنيه ذلك للأمن القومي (العربي) في زمن محاولاتٍ نعرفها لإعادة رسم خرائط المنطقة، تمزيقًا وتفتيتًا؛ إثنيًا وطائفيًا.

قد تختلف التفاصيل، وهي قطعًا كذلك ـ بين ما جرى في غزّة ويجري في الفاشر. ولكن النتيجة واحدة أنّ: أمنًا قوميًا في خطر... لا أستثني أحدًا.

(خاص "عروبة 22")

يتم التصفح الآن