عادت لغة الانذارات و"الخرائط" إلى لبنان في توقيت شديد الحساسية اختارته اسرائيل لتوجيه رسائل في عدة اتجاهات، خصوصًأ أن تحذيرات أمس بإخلاء مبانٍ في الجنوب والتهديد بنسفها جاءت بالتزامن مع عقد مجلس الوزراء جلسته التي تناول فيها التقرير الشهري للجيش اللبناني حول الخطة التي يقوم بها لنزع السلاح كما بعد ساعات من رفض "حزب الله" التفاوض المباشر من خلال الرسالة التي وجهها إلى الرؤساء الثلاثة، واصفًا السير في هذا المسار بـ"المنزلق والفخ". وتترافق هذه الوقائع مع تصعيد اسرائيلي ميداني وسياسي من خلال ارتفاع وتيرة الاعتداءات والهجمات بحجة استهداف عناصر تابعة للحزب أو مخازن أسلحته وعتاده العسكري كما على وقع الاتهام اليومي لـ"حزب الله" بأنه استعاد عافيته مجددًا.
الذرائع الاسرائيلية التي لا تنتهي يقابلها على المقلب الأخر تمسك لبناني بالتفاوض كأفضل خيار ممكن في الظروف الراهنة، لاسيما أن المنطقة تتخذ هذا الاتجاه وبالتالي يريد لبنان اللحاق بهذا الركب، وهو ما أكده مرارًا وتكرارًا رئيس الجمهورية جوزاف عون، الذي وضع هجمات الجيش الاسرائيلي في إطار "الجريمة المكتملة الأركان". وأضاف عون، في بيان، أن الهجمات الإسرائيلية تُعد أيضًا "جريمة سياسية نكراء"، مؤكدًا أن إسرائيل "لم تدّخر جهدًا منذ اتفاق وقف إطلاق النار قبل عام لإظهار رفضها أي تسوية تفاوضية بين البلدين". وأردف قائلًا "كلما عبّر لبنان عن انفتاحه على نهج التفاوض السلمي لحل القضايا العالقة مع إسرائيل، أمعنت الأخيرة في عدوانها على السيادة اللبنانية وتباهت باستهانتها بقرار مجلس الأمن رقم 1701، وتمادت في خرقها تفاهم وقف الأعمال العدائية". وكان العدو الاسرائيلي شنّ غارات جوية واسعة على مناطق مختلفة في جنوب لبنان شملت بلدات طيردبا والطيبة وعيتا الجبل وزوطر الشرقية وكفردونين، بعد إصدار إنذارات للسكان بالإخلاء بحجة أنها "بنية تحتية عسكرية تابعة لـ"حزب الله".
وعليه فإن المشهد الراهن يقوم على محاولات اميركية لضبط الايقاع ومنع اسرائيل من التصعيد العسكري مع الاصرار على الضغط السياسي للوصول إلى النتائج المرجوة في وقت تصرّ تل أبيب على تنفيذ ضربة عسكرية موسعة على "حزب الله" بهدف قلب المعادلات القائمة والدفع نحو اتفاق ما مع لبنان. ومع هذه التطورات التي شغلت الداخل اللبناني بظل مخاوف من عودة الحرب التي لم تضع أوزارها بعد، جاءت العقوبات التي فرضتها وزارة الخزانة الأميركية، في وقت سابق، "على أفراد سهلوا تحويل عشرات الملايين من الدولارات لحزب الله"، مشيرة إلى أن "استغلال الحزب لشركات الصرافة والاقتصاد النقدي لغسل أمواله يهدد النظام المالي اللبناني". من جهتها، أكدت الخارجية الأميركية، في بيان، أنه "لا يمكن السماح لإيران و"حزب الله" بإبقاء لبنان أسيرًا بعد الآن". وأضافت: "ملتزمون بدعم لبنان من خلال كشف وتعطيل تمويل إيران السري لـ"حزب الله".
هذه الاجراءات وغيرها تقوّض الحركة الاقتصادية والمالية في البلاد بينما يدرك "حزب الله" أن هناك توجه إلى تجريده من قوته العسكرية خاصة مع التغير في موازين القوى في المنطقة بعد أحداث 7 تشرين الاول/ أكتوبر 2023. وأن ركيزته الأساسية، ايران، هي نفسها تواجه مأزقًا كبيرًا بعد عودة العقوبات الأممية عليها وفشل التوصل إلى اتفاق نووي وحرب الـ12 يومًا الاسرائيلية الأميركية دون أن نغفل العامل الأهم لديها وهو سقوط حليفها بشار الأسد في سوريا. ومن هنا يرفع الحزب سقف المواجهة داخليًا ويرفض تسليم السلاح معتبرًا إياه من "المقدسات" وذلك حفاظًا على "ماء الوجه"، ولكنه في الوقت نفسه يدرك أن هذه "المغامرة" ليست لمصلحته مع وجود عشرات المباني والقرى التي سويت في الأرض وتحتاج إلى إعادة الاعمار، والذي لا يزال موضع تجاذب سياسي لأن الدول التي تُعنى بهذا الملف تربطه بضرورة التوصل إلى تسوية سياسية بين لبنان واسرائيل، وبالتالي عدم تدمير ما سيتم إعماره مجددًا.
الأوضاع اللبنانية التي لا تبشر بالخير على الرغم من جهود الحكومة لمنع انزلاق الأمور إلى ما لا تُحمد عقباه، تأتي في وقت تشهد المنطقة برمتها تغيرات وتبدلات. فمن غزة التي لا يزال قرار وقف النار قائمًا مع الخروقات الاسرائيلية اليومية وسط مساعي متواصلة من قبل الوسطاء لمنع انهيار الهدنة الهشة وعودة الحرب مع تعمد الاحتلال حرمان القطاع من أساسيات الحياة. ففي هذا الإطار، أوضح المكتب الإعلامي الحكومي في غزة أن إسرائيل تمنع أكثر من 350 صنفًا من المواد الغذائية الضرورية، التي يحتاجها الأطفال والمرضى والجرحى والفئات الضعيفة، بينما تسمح بدخول سلع ذات قيمة غذائية متدنية، مثل المشروبات الغازية والشوكولاتة والوجبات المصنعة، مشيرًا إلى أن إسرائيل سمحت بدخول 4453 من شاحنات المساعدات والشاحنات التجارية، من أصل 15 ألفًا و600 شاحنة كان من المفترض دخولها للقطاع منذ دخول وقف النار حيّز التنفيذ في 10 تشرين الأول/أكتوبر الماضي.
وهذا الواقع الانساني المتردي يأتي مع تعقيدات ترافق البدء في المرحلة الثانية من المباحثات، بسبب تلكؤ تل أبيب ووضع العثرات بينما تحاول واشنطن دفع الأمور قدمًا. وبهذا الإطار، قال الرئيس الأميركي دونالد ترامب إن موعد وصول قوة الاستقرار الدولية إلى قطاع غزة قريب للغاية، ورأى أن الأمور "تسير على ما يرام حتى الآن" ولكنه جدد لغة التهديد والوعيد بحق حركة "حماس"، التي "ستواجه مشكلة كبيرة إذا لم تتصرف بالشكل الذي تعهدت به"، مؤكدًا أن "هناك دولًا تطوعت للتدخل إذا ظهرت مشكلة مع "حماس" أو أي مشكلة أخرى للتعامل معها"، من دون أن يسمي هذه الدول. من جانبه، لفت وزير الخارجية الأميركي ماركو روبيو إلى أن الدول المتطوعة للمشاركة في قوة الاستقرار الدولية في غزة تحتاج تفويضًا من الأمم المتحدة، وأنه تم تحقيق تقدم في هذا الشأن، مشددًا على أن هناك جهودًا تُبذل حاليًا في الأمم المتحدة لصياغة قرار ينشئ الإطار الدولي لهذه القوة.
في السياق نفسه، قال رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو إن القوة العسكرية الوحيدة التي ستدخل قطاع غزة ضمن القوة الدولية هي تلك التي تقبلها إسرائيل. وأضاف أن خطة الرئيس ترامب تهدف لمنح فرصة لقوة دولية تتولى نزع سلاح حركة "حماس" وإقصاءها عن مستقبل الحكم في القطاع، مؤكدًا أن تحقيق هذا الهدف سيتم إما بالطريق السهل عبر القوة الدولية، أو بالطريق الصعب مع إسرائيل نفسها. كما أشار إلى أن الرئيس الأميركي وفريقه، إلى جانب الوزير رون ديرمر، أعدّوا خطة مفصّلة من 20 نقطة عزلت الحركة فعليًا عن المشهد السياسي في غزة. إلى ذلك، لا تزال قضية عناصر "حماس" العالقين في رفح موضع نقاش وسط محاولات لايجاد حل. وأكد المبعوث الأميركي الخاص ستيف ويتكوف أن الولايات المتحدة تضغط على إسرائيل لمنح ممر آمن لما بين 100 و200 من عناصر الحركة مقابل تسليم أسلحتهم، موضحًا أنه أجرى اتصالات هاتفية مع وزير الخارجية التركي هاكان فيدان ووزير الشؤون الاستراتيجية رون ديرمر بهذا الخصوص.
تزامنًا، أصدر وزير الدفاع يسرائيل كاتس تعليماته للجيش بإعلان المنطقة الحدودية بين إسرائيل ومصر منطقة عسكرية مغلقة، وتعديل قواعد إطلاق النار، في ضوء التهديد المتواصل الذي تشكّله الطائرات المسيّرة في المنطقة. وأضاف مكتب كاتس، بعد اجتماع عقده الأخير مع مسؤولين من الجيش والشرطة وجهاز "الشاباك"، أن هيئة تطوير الوسائل القتالية في وزارة الدفاع وسلاح الجو سيقومان بتطوير "حلول تكنولوجية" جديدة للتصدّي لتهديد المسيّرات، بينما ستساعد مجلس الأمن القومي في تعديل متطلبات الترخيص والتشريعات المرتبطة باستخدام وشراء وحيازة المسيّرات. من جهة أخرى، أعلنت "حماس" أن وفداً من الحركة بقيادة خليل الحية التقى مع رئيس جهاز الاستخبارات التركية إبراهيم قالن في إسطنبول، وبحث معه تطورات تنفيذ اتفاق وقف إطلاق النار في غزة. وذكرت الحركة أن اللقاء تناول الانتهاكات الإسرائيلية لاتفاق غزة، وإغلاق المعابر بما فيها معبر رفح وتعطيل دخول المساعدات والمستلزمات الطبية واحتياجات إعادة بناء البنية التحتية.
سوريًا، وكما كان متوقعًا رفع مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة العقوبات المفروضة على الرئيس السوري أحمد الشرع، الذي يهم لزيارة البيت الأبيض، يوم الاثنين، لإجراء لقاء مع الرئيس ترامب. كما نص القرار عينه على رفع العقوبات عن وزير الداخلية السوري أنس خطاب. من جهتها، سارعت وزارة الخارجية السورية على لسان الوزير أسعد الشيباني إلى الاعلان عن "تقديرها للولايات المتحدة والدول الصديقة على دعمها سوريا وشعبها". وهذه الخطوات تعزّز دور الإدارة الجديدة التي لا تزال تواجه الكثير من المشاكل الداخلية، وأبرزها مع "قسد" وسط مطالبات جديدة لتنظيم مظاهرات في عموم المحافظات السورية، اليوم الجمعة، ضدها بهدف "تحرير الأرض والإنسان في مناطق الجزيرة (منها)، ووقف انتهاكاتها اليومية بحق أبناء العشائر والقبائل السورية ومن كافة القوميات والطوائف والأديان"، بحسب النداء الذي أطلقته "الهيئة العامة لثوار سوريا".
على الصعيد الدولي، أعلن الرئيس الأميركي أن كازاخستان وافقت على الانضمام رسميًا إلى اتفاقات التطبيع مع إسرائيل، المعروفة باسم "اتفاقات أبراهام"، في خطوة وصفت بـ"الرمزية" نظرًا إلى العلاقات القائمة أصلا بين البلدين. وقال ترامب "أجريت مكالمة رائعة مع نتنياهو ورئيس كازاخستان"، مشيرا إلى أنها أول دولة تنضم إلى اتفاقات أبراهام خلال ولايته الثانية في البيت الأبيض. وتابع "سنعلن قريبًا عن حفل توقيع رسمي، وهناك العديد من الدول الأخرى التي تسعى للانضمام إلى نادي القوة هذا".
ومن المستجدات والمعطيات السياسية إلى الجولة الصباحية على الصحف العربية الصادرة اليوم. والتي يمكن إيجاز ابرز ما ورد فيها على الشكل التالي:
أشارت صحيفة "الجريدة" الكويتية إلى ان "التصعيد الإسرائيلي تزامن مع مواقف تصعيدية لـ"حزب الله"، تمسك فيها بسلاحه، وعبّر فيها عن رفضه التفاوض السياسي مع تل أبيب، وهو ما تضغط واشنطن من أجله، للتوصل إلى ترتيبات أمنية وسياسية تفضي إلى تثبيت وقف النار في جنوب لبنان وانسحاب إسرائيل من 5 نقاط لبنانية لا تزال تحتلها". ونقلت الصحيفة عينها عن مصادر لبنانية إشارتها إلى "أنه في إطار بحث إمكانية تعيين شخصية مدنية لتولي المفاوضات مع إسرائيل وقع الاختيار على بول سالم، وهو أكاديمي مرموق يشغل حاليًا منصب "رئيس معهد الشرق الأوسط" ومديره التنفيذي، ويحمل الجنسية الأميركية، وقد طرح سابقًا كمرشح محتمل لوزارة الخارجية اللبنانية في حكومة الرئيس نواف سلام".
صحيفة "اللواء" اللبنانية، من جانبها، استهجنت ما يحصل على الساحة الداخلية قائلة "يبدو أن الطبقة السياسية في لبنان تعيش في كوكب آخر. فبينما تشتد التهديدات الإسرائيلية ويتصاعد القصف اليومي على الحدود الجنوبية تحت ذريعة ضرب "البنية العسكرية لحزب الله"، ينشغل معظم السياسيين بمعاركهم الصغيرة حول قانون الانتخاب وتوزيع أصوات المغتربين". وتابعت "إن المأزق الحقيقي لا يكمن فقط في الانقسام حول قانون الانتخابات، بل في انعدام الحسّ الوطني لدى من يُفترض أنهم قادة المرحلة. فبلد مهدَّد بالحرب والانهيار لا يمكن أن تُدار شؤونه بعقلية "الحصص" و"الدوائر"، بل بحاجة إلى رؤية إنقاذية تضع الأمن الوطني فوق كل اعتبار، وتعيد الاعتبار إلى مفهوم الدولة الجامعة التي تتقدم فيها المصلحة العامة على المصالح الفئوية والانتخابية".
أما صحيفة "الوطن" القطرية، فقد تطرقت إلى مواصلة "عصابات المستوطنين المدعومة من حكومة اليمين المتطرف عربدتها واعتداءاتها على الناس العُزْل" في الضفة الغربية المحتلة، مشددة على أنه "بين الاستيطان الرعوي والاستيطان الزراعي والاستيطان الصناعي والاستيطان السياحي والديني والتكنولوجي، تقضم الأرض الفلسطيني وتسرق خيرات الفلسطيني على هذا النحو الذي يراه العالم، ويرى كيف هي وحشية المستوطنين المدعومين بحراسة جنود الاحتلال، بينما يقف الفلسطيني وحيدًا لا يجد خلفه قوة تحميه وتحمي حقه من هذه السرقات والاعتداءات".
(رصد "عروبة 22")

