في استعداده للقاء الصعب مع الرئيس الأميركي، اختار رئيس الوزراء الإسرائيلي أن "يهرب" من غزّة الى إيران. ففي غزّة استطاع أن يرضي واشنطن بوقفٍ نسبي لإطلاق النار يواظب متعمّداً على خروق كلّفت الفلسطينيين حتى الآن أربعمئة قتيل وأكثر من ألف جريح، كما يواصل تقنين المساعدات بما فيها مستلزمات الإيواء بعدما أغرقت الأمطار خيام النازحين. ولعل ما شجعه على هذه الانتهاكات أن مشاهد البرد والتشرّد والفيضانات لم تحرّك أي ردود فعل في البيت الأبيض. أما بالنسبة إلى إيران، فيريد بنيامين نتنياهو إقناع دونالد ترامب بـ"حزمة خيارات عسكرية للتعامل مع التهديد الإيراني المتصاعد"، لكن ترامب ينتظره ليسأله: ماذا عن غزّة؟ وقد يقول له: إنسَ إيران لفترة... هذا لا يعني أن الرئيس الأميركي لم يعد معنياً بـ"خطر إيران"، لكنه يرى أن خطته في غزّة تتراجع بسبب عراقيل إسرائيلية.
انعقد في ميامي اجتماع بين المبعوث الأميركي والوسطاء في غزّة، المصري والتركي والقطري، لمراجعة ما نفّذ من المرحلة الأولى و"تعزيز الاستعدادات للمرحلة الثانية". هناك عنوان في "الصنداي تايمز" اختصر الوضع: "المرحلة الأولى كانت صعبة والتالية قد تكون مستحيلة". ما يصنع هذه الاستحالة محوران: الخط الأصفر، ونزع سلاح "حماس". الأول يوسّعه الإسرائيليون باستمرار خلافاً للاتفاق ويعتبرونه "حدوداً جديدة"، والآخر يتساءل الجميع عمّن سيتولّى المهمة، والجواب عند إسرائيل أنها الوحيدة المؤهّلة لذلك، بدليل أن في رصيدها حرب إبادة حصدت في حدٍّ أدنى ربع مليون فلسطيني قتيل أو مصاب، لكنها تنسى أنها على رغم هذا الرصيد الإجرامي لم تستطع القضاء على سلاح "حماس".
لا يصرّح المبعوث ستيف ويتكوف علناً بإن خطة رئيسه تواجه صعوبات، لذا قال بعد الاجتماع مع نظرائه الوسطاء: "أحرزنا تقدماً"، معدّداً الإنجازات، ومنها مثلاً "توسيع نطاق المساعدات الإنسانية"، على رغم أن منظمات الأمم المتحدة تكرّر يومياً أن ما دخل من مساعدات أقل بكثير من الاحتياجات ومنها ما كان ملحاً في الفترة الأخيرة، تحديداً الادوية والمواد الطبّية والوقود، فضلاً عن خيام جديدة أو بيوت جاهزة، وكلّ ذلك متوافّر عند معبر رفح (الذي لم يُفتح بموجب المرحلة 1) ولا يُسمح بإدخاله. ما يُستدل إليه من المناقشات أن الخطوات المطلوبة للمرحلة الثانية متروكة لقرارات يعلنها ترامب، وكلما أوحى أعضاء الإدارة أنها جاهزة تبيّن أنها قيد البحث. ويتساءل ديبلوماسي عربي لماذا يكرّر الوزير ماركو روبيو "تأكيد" أن دولاً عدة ستشارك في "قوة الاستقرار الدولية"، فبالطبع هناك دولٌ راغبة مبدئياً لكن التزاماتها محدودة ومشروطة. وكان ذا دلالة أن يُنقل عن الوسطاء إصرار على "أهمية تمكين هيئة حاكمة في غزة تعمل تحت سلطة فلسطينية موحدة"، علماً أن إسرائيل ترفض هذه الصيغة وأن واشنطن لا تتبنّاها، ما يغذّي الشكوك في أهداف "خطة ترامب".
لطالما تحدّث ترامب عن حرب غزة كأنها "انتهت"، في حين أن نتنياهو يبذل كل جهد لإفهام حليفه الأكبر أن الحرب بالنسبة إليه "لم تنتهِ"، وإذا لم يكن ما يحصل في غزّة والضفة كافياً لإفهامه، فإنه يصعّد في لبنان وسوريا. بل إن نتنياهو يأمل في أن يغيّر اتجاه بوصلة ترامب بما لديه من "معلومات استخبارية محدثة" عن تطورات برنامج الصواريخ الباليستية الإيرانية. سبقه قبل أيام رئيس جهاز "الموساد" ديفيد برنياع مركّزاً على نشاط مستجد في البرنامج النووي الايراني. كما أن كبير المتطرفين بتسلئيل سموتريتش ساهم في كشف نيات نتنياهو، إذ يطالب بشن حرب في غزة ولبنان قبل الانتخابات الإسرائيلية في تشرين الأول (أكتوبر) المقبل.
جرى اختبار الصواريخ الإيرانية خلال "حرب الـ12 يوماً" في حزيران (يونيو) الماضي، وهي ليست مسألة جديدة على ترامب وإدارته، إذ كانت احد أسباب انسحابه من الاتفاق النووي عام 2018، لكن واشنطن تعوّل على ضعف إيران لمعالجة مشكلة الصواريخ في اطار إغلاق نهائي للملف النووي، بالتفاوض وليس بحرب جديدة، إلا إذا طرأت ظروف تقتضيها. غير أن نتنياهو لا يخيّر ترامب عملياً بل يذهب لإبلاغه أن إسرائيل تشعر بـ "تهديد" يحتّم "تحركاً عاجلاً" قبل أن تضاعف طهران مخزونها الصاروخي. كما أنه يطرح السيناريوهات المعتادة: "ضربة إسرائيلية منفردة أو بدعم أميركي محدود، تنفيذ عملية مشتركة، أو تحرّك أميركي مباشر ضد أهداف داخل إيران".
لكن مناورة نتنياهو تبدو مكشوفة أمام مسؤولي الإدارة في واشنطن، فهو يحتاج إلى حرب قبل الانتخابات لأن مأزقه الداخلي الذي يزداد صعوبة وخلافاته المتراكمة مع واشنطن في شأن غزة تدفعه إلى المقامرة حتى ولو بإحراج ترامب. ولا تعني الخيارات المطروحة سوى أن تحرّك إسرائيل بمفردها ضد إيران بات محسوماً أما تورّط أميركا فسيأتي لاحقاً، وحُكماً. وفي الأثناء يكون "اتفاق غزة" قد فقد كل زخم ويصبح "سلام ترامب" مجرد سراب آخر.
(الوطن السعودية)

