وجهات نظر

"واقعة المنقوش"... ومسار التطبيع

مع أني أعلم تمام العلم أنّ واقعة اجتماع نجلاء المنقوش وزيرة خارجية حكومة الدبيبة السابقة مع وزير الخارجية الإسرائيلي في أغسطس الماضي قد قُتِلَت كتابةً وتعليقًا وإدانةً إلا أنني استأذنت في الكتابة في الموضوع لاتصاله اتصالًا وثيقًا بـمقالتي السابقة على هذه المنصّة الرصينة، والتي كانت تبحث في الإجابة عن سؤال: "هل تراجعت العروبة على الصعيد غير الرسمي؟"، وقد انتهى التحليل فيها إلى إجابة قوية بالنفي، وتمّ الاستشهاد بواقعتين محدّدتين مستمدّتين من فعاليات كأس العالم لكرة القدم في الدوحة ٢٠٢٢، وكأس الخليج في البصرة ٢٠٢٣، وقد تكاملت الواقعتان في إثبات عروبة الجماهير العربية في مواجهة الآخر الذي يغتصب حقوق شعب ينتمي لها عزيز عليها، وكذلك استعادة اللُحمة بين هذه الجماهير بعد أحداث ١٩٩٠ المأساوية، وعلى الرغم من الدلالات السياسية الواضحة للواقعتين إلا أنها كانت دلالات غير مباشرة على عجز التطبيع عن التأثير على وعي الجماهير العربية.

أما واقعة المنقوش فقد اتّجهت رأسًا إلى صلب القضية، فما كاد التصريح الإسرائيلي الذي فضح اللقاء يُذاع ويُحْدث آثاره المؤلمة على كل مؤمن بعدالة أهداف أمّته العربية حتى انتفضت الجماهير الليبية ضد اللقاء ومن شاركت فيه ومن وراءها، لأنه لا يُعقل أن تُقْدِم وزيرة خارجية على هكذا عمل دون أن يكون جزءًا من سياسة يُخطّط لها أو بدأ تنفيذها، وهو ما أكدت عليه المصادر الإسرائيلية التي يلهيها الزهو بإنجازاتها في مجال التطبيع مع نظم عربية عن حماية شركائها من ممثلي هذه النظم، وقد تداعت ردود الفعل الفورية في الداخل الليبي فأصدر الدبيبة قرارًا بإيقافها والتحقيق معها ثم إقالتها، وقد غادرت ليبيا على أي حال.

استعاد الشعب الليبي وحدته في "غمضة عين" كاشفًا عن عروبته الأصيلة

وتكتسب هذه الواقعة الليبية في مسار التطبيع الإسرائيلي مع الدول العربية دلالة خاصة مهمّة، ذلك أنّ ليبيا كما يعلم الجميع تمرّ بظروف بالغة الصعوبة منذ سقوط نظام العقيد القذافي أفضت في الوضع الراهن إلى غياب الدولة الليبية الموحدة وازدواجية في مؤسسات الحكم ما بين شرق ليبيا وغربها مُعَززة باختلافات ذات طابع أيديولوجي، وكذلك في خريطة التحالفات الإقليمية والدولية.

وقد كان واردًا أن ينعكس هذا الانقسام على الموقف من لقاء المنقوش بوزير الخارجية الإسرائيلي كأن يمرّ بسلام في الغرب ويفضي إلى ردود فعل غاضبة حادة في الشرق ولو من باب توظيف الواقعة في الصراع السياسي الداخلي، لكن ما حدث كان العكس تمامًا، فقد استعاد الشعب الليبي وحدته في "غمضة عين" كاشفًا عن عروبته الأصيلة ومسطّرًا صفحة جديدة مشرّفة في مسار التطبيع.

الحالة الليبية هي الحالة الأولى التي يتمّ فيها وأد التطبيع بفعل شعبي فوري وحاسم

والواقع أنّ المتتبع لهذا المسار يلاحظ أننا إزاء أربعة أنماط من التطبيع: الأول بُني على منطق المقايضة السياسية بمعنى أن يتمّ التطبيع مقابل تنازلات تقدّمها إسرائيل كإتمام انسحابها من سيناء أو من الأراضي التي كانت تحتلّها في شرق الأردن بالنسبة لمعاهدتيها مع مصر وإسرائيل، أو الاعتراف بمنظمة التحرير الفلسطينية كممثل للشعب الفلسطيني بالنسبة لاتفاقية أوسلو، أما النمط الثاني فقد بُني على الإكراه، وكان هذا الإكراه إمّا عسكريًا كما في الحالة اللبنانية بالنسبة لاتفاق ١٩٨٣، أو اقتصاديًا كما في الحالة الموريتانية (١٩٩٨-٢٠٠٩)، ثم دشّنت قمة بيروت ٢٠٠٢ نمطًا ثالثًا للتطبيع يقوم على فكرة المشروطية، أي ربطه بتلبية إسرائيل للمطالب العربية المنصوص عليها في المبادرة السعودية التي تبنّتها القمة باسم "المبادرة العربية"، وقد ظلّ هذا النمط افتراضيًا لعدم موافقة إسرائيل عليها، حتى ظهر النمط الرابع وهو التطبيع نتيجة تحوّل في إدراك صنّاع القرار وتوجّهاتهم، بحيث لم تعد التنازلات الإسرائيلية بخصوص المطالب العربية والفلسطينية شرطًا للتطبيع على أساس أنّ من تبنّوا هذا النمط يعتبرون أنّ للتطبيع مزاياه في حدّ ذاته.

وفي كافة مراحل التطبيع وأنماطه لعبت الشعوب العربية دورًا فاعلًا في مساره، فتكفّل الشعبان المصري والإردني بتحويله إلى تطبيع شكلي لا تتبنّاه الشعوب، وأسقطه الشعبان اللبناني والموريتاني إما مباشرةً كما في الحالة الأولى، أو بعد حين كما في الحالة الموريتانية، كما أنّ قطاعات من الرأي العام تفاوتت أوزانها بين بلدان النمط الرابع للتطبيع تمسّكت بمعارضتها له، أما الحالة الليبية فهي الحالة الأولى التي يتمّ فيها وأد التطبيع بفعل شعبي فوري وحاسم، وما زالت المعركة مستمرّة.

(خاص "عروبة 22")

يتم التصفح الآن