صحافة

السودان.. ضرورة التلاقي الإقليمي والدولي لإنهاء الحرب ومنع التفتيت

عمرو حمزاوي

المشاركة
السودان.. ضرورة التلاقي الإقليمي والدولي لإنهاء الحرب ومنع التفتيت

منذ اندلاع الحرب الأهلية في السودان بين القوات المسلحة السودانية وقوات الدعم السريع، يعيش هذا البلد العربي الإفريقي الشقيق واحدة من أكثر لحظات تاريخه الحديث قسوة وخطورة. الدمار الذي أصاب الخرطوم ومدنًا كبرى، والنزوح الداخلي والخارجي لملايين المدنيين، وانهيار مؤسسات الدولة، وتحلل البنية الاجتماعية، كلها مؤشرات على حرب لا رابح فيها سوى الفوضى والانقسام. في الوقت ذاته، يبدو المجتمع الدولي عاجزًا عن بلورة إرادة حقيقية لوقف النزيف، بينما تتفاوت المواقف الإقليمية وتتشابك المصالح على نحو يجعل السودان ميدان تنافس بدلًا من أن يكون ساحة توافق وإنقاذ.

لقد دخل السودان هذه الحرب وهو يحمل إرثًا ثقيلًا من الأزمات السياسية والاقتصادية، لكنّ الانهيار الراهن فاق كل التوقعات. فالمواجهات المسلحة تحوّلت إلى صراع مفتوح على السلطة والثروة والمجال الجغرافي، وتنامت معه أخطار التفكك الوطني. مناطق بأكملها خرجت عن السيطرة المركزية، وتغلغلت النزعات القبلية والإثنية في نسيج الدولة. ومع امتداد النزاع، أصبح شبح تقسيم السودان مجددًا خطرًا واقعيًا، خصوصًا في ظل تفاقم الأوضاع الإنسانية وانهيار الخدمات وتآكل المؤسسات.

غير أن السودان ليس شأنًا داخليًا فحسب. فهو بلد يقع في قلب الإقليم، يتقاطع مع مصالح وأمن جيرانه جميعًا، وعلى رأسهم مصر. فحدود السودان الشمالية والشرقية تمس الأمن القومي المصري مباشرة، لا سيما في ما يتعلق بأمن المياه في حوض النيل، وبالحدود الممتدة بطول أكثر من ألف كيلومتر، وبالتأثيرات الإنسانية والسياسية والأمنية التي يفرضها استمرار النزاع. كما أن السودان يمثل عمقًا استراتيجيًا لمصر في إفريقيا، وامتدادًا طبيعيًا لدوائرها الجغرافية والاقتصادية. ومن ثم، فإن استقرار السودان ليس ترفًا سياسيًا بالنسبة للقاهرة بل ضرورة وجودية للأمن الوطني المصري والإقليمي.

من هنا، تتحرك مصر برؤية متزنة وواقعية تجاه الأزمة. فبينما تتجنب الانحياز إلى طرف على حساب آخر، تضع القاهرة أولوية قصوى للحفاظ على وحدة السودان وإنهاء القتال وبدء مسار تفاوضي جامع. هذا هو جوهر الدور المصري: الدفع نحو التهدئة والحوار، وتحذير المجتمعين الإقليمي والدولي من مغبة ترك السودان يغرق في دوامة الانقسام والحروب المحلية. كما تدرك مصر أن إعادة بناء مؤسسات الدولة السودانية لا يمكن أن تتم إلا من خلال تفاهم وطني شامل، تدعمه بيئة إقليمية مستقرة ومسئولة، وإرادة دولية صادقة تدرك أن انهيار السودان سيصيب الإقليم كله بعدواه.

لكن هذا الدور المصري لا يمكن أن يُثمر وحده في غياب تلاقي الإرادة الإقليمية والدولية. فالتجاذب بين القوى الفاعلة حول مسارات الحل، واستمرار دعم بعض الأطراف الإقليمية والعالمية لقوى متحاربة بالسلاح والمال، يطيل أمد النزاع ويقوّض فرص التفاوض. المطلوب اليوم توافق إقليمي حقيقي - يضم مصر ودول الجوار العربي والإفريقي، والاتحاد الإفريقي، والجامعة العربية، والأمم المتحدة- على خريطة طريق واقعية تقوم على وقف فوري لإطلاق النار، وفتح ممرات إنسانية آمنة، وإطلاق حوار سياسي بين الأطراف السودانية كافة دون إقصاء.

إن الحل فى السودان لا يمكن أن يُفرض من الخارج، لكنه أيضًا لا يمكن أن يُترك رهينة توازنات داخلية مأزومة أو مصالح إقليمية ضيقة. المطلوب دعم وطنى سوداني خالص للمسار التفاوضي، وإرادة إقليمية جامعة تمنع تغذية الصراع، وإسناد دولي يعيد للسودان مكانته في النظامين العربي والإفريقي. وحده هذا التلاقى المتكامل بين الداخل والإقليم والعالم يمكن أن يوقف التدهور ويمنع تفتيت السودان ويعيد للدولة السودانية مركزها كركيزة استقرار في القارة.

ولعل المجتمع الدولي مطالب اليوم بأن يتجاوز سياسة البيانات والقلق الدبلوماسي إلى خطوات عملية: دعم مبادرات الوساطة الإقليمية بجدية، توفير التمويل العاجل للاستجابة الإنسانية، حماية المدنيين من الانتهاكات الواسعة، والضغط على الأطراف كافة للانخراط في حوار شامل برعاية الأمم المتحدة والاتحاد الإفريقي. فالسودان، بكل ما يحمله من إمكانات بشرية واقتصادية وموقع جغرافي استثنائي، يستحق أن يكون نموذجًا للتعافي لا ساحة لصراع النفوذ.

على المستوى العربي، من الضروري أن تتحول الدعوات إلى التضامن مع السودان إلى سياسة عربية جماعية واضحة. فاستقرار السودان هو استقرار للمنطقة كلها: أمن البحر الأحمر، حركة التجارة، توازنات القرن الإفريقي، وأمن النيل كلها قضايا ترتبط بمستقبل السودان. لذا يجب أن تنخرط الدول العربية، خصوصًا مصر والسعودية والإمارات ودول شمال إفريقيا، في تحرك منسق لدعم التفاوض والتهدئة والإعمار لاحقًا، بدلًا من ترك الساحة لتدخلات متنافرة تكرّس الفوضى.

إن السودان يقف اليوم على مفترق طرق: إما أن تنجح الإرادة الإقليمية والدولية في وقف الحرب وإطلاق مسار سياسي جديد، أو أن ينزلق البلد إلى تفكك يصعب احتواؤه. والاختيار لا يخص السودانيين وحدهم، بل يمتد أثره إلى كل محيطهم العربي والإفريقي. إن ترك السودان يغرق يعني قبولًا ضمنيًا بانهيار جديد في النظام الإقليمي، وبفقدان ركيزة أساسية من ركائز الاستقرار في وادى النيل والقرن الإفريقي.

إن واجبنا العربي والإنساني يفرض أن نتحرك الآن، لا غدًا، لإنقاذ السودان من مصيره الكارثي. التلاقى بين الإرادة الوطنية السودانية، والتحرك الإقليمي المتزن الذي تقوده مصر وشركاؤها، والإسناد الدولي الجاد، هو الطريق الوحيد لوقف هذه المأساة. السودان ليس ساحة لتصفية الحسابات، بل بلد يحتاج إلى دعم العالم لاستعادة وحدته ودولته ومستقبله.

(الشروق المصرية)

يتم التصفح الآن