اقتصاد ومال

الشركاتُ الصَّغيرةُ وَالمُتَوَسِّطَة.. وإعادةُ تشكيلِ الاقتصاداتِ العَرَبِيَّة؟ (1/2)

تَسْعَى الاِقْتِصاداتُ العَرَبِيَّةُ بِمُخْتَلَفِ أَحْجامِها إلى تَعْزيزِ تَنافُسِيَّتِها وَتَحْقيقِ نُمُوٍّ مُسْتَدامٍ مُسْتَنِدٍ إلى الاِبْتِكارِ وَتَوْسيعِ قاعِدَةِ الإِنْتاجِ، وَيَبْرُزُ دَعْمُ الشَّرِكاتِ الصَّغيرَةِ وَالمُتَوَسِّطَةِ بِوَصْفِها العَمُودَ الفِقْرِيَّ لِلقِطاعِ الخاصِّ مُحَفِّزًا رَئِيسيًّا لِهَذا التَّحَوُّل. غَيْرَ أَنَّ مَسارَ تَعْزيزِ قُدْرَةِ هَذِهِ الشَّرِكاتِ لا يَزالُ مَحْفوفًا بِتَحَدِّياتٍ هَيْكَلِيَّةٍ مُعَقَّدَةٍ تَتَطَلَّبُ حُلولًا تَكامُليَّةً على المُسْتَوَيَيْنِ الوَطَنيِّ وَالإِقْليميّ. في هَذا السِّياقِ، يَتَناوَلُ هَذا المَقالُ في جُزْئِهِ الأَوَّلِ، تَحْليلَ الواقِعِ القائِمِ وَمُعَوِّقاتِهِ البِنْيَوِيَّةِ، وَيَسْتَعْرِضُ في الجُزْءِ الثّانِي سِياساتٍ تَكامُليَّةً وَتَوْصِياتٍ عَمَلِيَّةً قابِلَةً لِلتَّنْفيذ.

الشركاتُ الصَّغيرةُ وَالمُتَوَسِّطَة.. وإعادةُ تشكيلِ الاقتصاداتِ العَرَبِيَّة؟ (1/2)

تُـمَثِّلُ الشَّرِكاتُ الصَّغيرَةُ وَالمُتَوَسِّطَةُ في البُلْدانِ العَرَبِيَّةِ الدِّعامَةَ الأَساسيَّةَ لِلنَّشاطِ الاِقْتِصادِيِّ، إِذْ يُقَدَّرُ أَنَّ نَحْوَ 97 في المِئَةِ من إِجْمالِيِّ الشَّرِكاتِ في البُلْدانِ العَرَبِيَّةِ تَنْتَمِي إلى فِئَةِ المُؤَسَّساتِ الصَّغيرَةِ وَالمُتَوَسِّطَة. وَتُساهِمُ هَذِهِ الشَّرِكاتُ في أَيِّ بَلَدٍ من بُلْدانِ العالَمِ مُساهَمَةً كَبيرَةً في تَوْليدِ فُرَصِ العَمَلِ وَتَخْفيضِ مُعَدَّلاتِ الفَقْرِ، وَتُعَدُّ مُحَرِّكًا رَئيسيًّا لِلاِقْتِصادِ المُنْتِجِ، إِذْ تُوَفِّرُ فُرَصًا أَكْبَرَ لِلنُّمُوِّ السَّريعِ مُقارَنَةً بِالمُؤَسَّساتِ الكُبْرَى الَّتِي تُواجِهُ عَادَةً قُيودًا تَنْظيميَّةً أَوْ بيروقْراطيَّة. وَمَعَ ذَلِكَ، لا يَزالُ واقِعُ الشَّرِكاتِ الصَّغيرَةِ وَالمُتَوَسِّطَةِ في أَغْلَبيَّةِ الاِقْتِصاداتِ العَرَبِيَّةِ مَشوبًا بِعَدَدٍ مِنَ التَّحَدّياتِ البِنْيَوِيَّةِ الَّتِي تَمْنَعُها من أَداءِ دَوْرِها الكامِل.

ضعفُ أدوات التمويل يُشكّل ضغطًا مباشرًا على قدرة الشركات الصغيرة والمتوسّطة على النمو وتحَمُّل المخاطر

تُعاني الشَّرِكاتُ الصَّغيرَةُ وَالمُتَوَسِّطَةُ في المنطَقَةِ العَرَبيَّةِ من صُعوبَةٍ كَبيرَةٍ في الحُصولِ على التَّمْويلِ الكافي، سَواءً لِتَعْزيزِ رَأْسِ المالِ العامِلِ أَوْ لِتَنْفيذِ خُطَطِ التَّوَسُّع. وَتُشيرُ دِراسَةٌ أَعَدَّتْها "مُؤَسَّسَةُ التَّمْويلِ الدَّوْليَّةِ" إلى أَنَّ نَحْوَ 63 في المِئَةِ مِنَ المُؤَسَّساتِ الصَّغيرَةِ وَالمُتَوَسِّطَةِ في منطَقَةِ الشَّرْقِ الأَوْسَطِ وَشَمالِ أَفْريقْيا لا تَحْصُلُ على التَّمْويلِ الَّذِي تَطْلُبُه. أَمّا على صَعيدِ الإِقْراضِ المَصْرِفي، فَيَتَبَيَّنُ أَنَّ نِسْبَةَ القُروضِ الَّتِي تَمْنَحُها المَصارِفُ إلى هَذِهِ الفِئَةِ تَبْلُغُ فَقَطْ نَحْوَ ثَمانِيَةٍ في المِئَةِ من إِجْماليِّ الإِقْراضِ المَصْرِفي في المِنْطَقَةِ العَرَبِيَّة. كَذَلِكَ، تُشيرُ بَياناتٌ صادِرَةٌ عَنْ بَرْنامَجِ الأُمَمِ المُتَّحِدَةِ الإِنْمائيِّ إلى أَنَّ الاِقْتِصاداتِ العَرَبِيَّةَ تَتَخَلَّفُ عَنْ تَوْفيرِ وُصولٍ فِعْليٍّ وَمُسْتَدامٍ إلى الخَدَماتِ الماليَّةِ المُخَصَّصَةِ لِلْمُؤَسَّساتِ الصَّغِيرَةِ وَالمُتَوَسِّطَةِ مُقارَنَةً بِالبُلْدانِ ذاتِ المَداخِيلِ المُماثِلَة. وَيُشَكِّلُ ضَعْفُ أَدَواتِ التَّمْويلِ ضَغْطًا مُباشِرًا على قُدْرَةِ الشَّرِكاتِ الصَّغيرَةِ وَالمُتَوَسِّطَةِ على النُّمُوِّ وَتَحَمُّلِ المَخاطِر.

إلى جانِبِ التَّمْويلِ، تُواجِهُ هَذِهِ الشَّرِكاتُ بيئَةً تَشْريعيَّةً وَتَنْظيميَّةً غَيْرَ مُواتِيَةٍ في العَديدِ مِنَ البُلْدانِ العَرَبِيَّة. من بَيْنِ مَظاهِرِ هَذِهِ المُشْكِلَةِ: طُولُ الإِجْراءاتِ البيروقْراطيَّةِ، وَتَعَدُّدُ الجِهاتِ الرَّقابِيَّةِ، وَصُعوبَةُ دُخولِ المُناقَصاتِ الحُكوميَّةِ أَوِ التَّنافُسِ على عُقودٍ كُبْرَى. مَثَلًا، يُشيرُ تَقْريرٌ من إِعْدادِ اللَّجْنَةِ الاِقْتِصاديَّةِ وَالاجْتِماعيَّةِ لِغَرْبيِّ آسْيا (الإِسْكْوا) عَنْ تَسْهيلِ التِّجارَةِ، إلى أَنَّ الدُّوَلَ العَرَبيَّةَ دَمَجَتْ مُؤَسَّساتِ الشَّرِكاتِ الصَّغيرَةِ وَالمُتَوَسِّطَةِ في لِجانِ تَسْهيلِ التِّجارَةِ في عَدَدٍ مَحْدودٍ فَقَطْ مِنَ الحالاتِ، مَا يَدُلُّ على فَجْوَةٍ في الدَّمْجِ المُؤَسَّسيِّ وَالمُشارَكَةِ في السِّياسات. كَذَلِكَ، يُحْرَمُ العَديدُ من رُوّادِ الأَعْمالِ مِنَ الاِسْتِفادَةِ من إِحْلالِ مُناخٍ أَسْهَلَ لِبَدْءِ النَّشاطِ أَوْ نَقْلِ المِلْكيَّةِ أَوْ تَوْسيعِ العَمَلِ، مَا يُثَبِّطُ المَبادَرَةَ وَالاِسْتِثْمار.

تأخُّر تسديد المُستحقات يُشكّل ضغطًا كبيرًا على السُّيولة ويُقَوِّض قدرة الشركات

وتُـمَثِّلُ قُدْرَةُ الشَّرِكاتِ الصَّغيرَةِ وَالمُتَوَسِّطَةِ على الاِبْتِكارِ وَالتَّحْديثِ مُكَوِّنًا حَيَويًّا لِنَجاحِهَا في الأَسْواقِ، إِلا أَنَّ الواقِعَ يُشِيرُ إلى ضَعْفٍ في هَذَا المَجال. مَثَلًا، يُبَيِّنُ تَقْريرٌ لِـ"مُنَظَّمَةِ العَمَلِ الدَّوْليَّةِ" عَنِ الاِقْتِصادِ العَرَبيِّ أَنَّ النِّظامَ التَّعْليميَّ وَالتَّدْريبيَّ في العالَمِ العَرَبيِّ لا يَتَمَتَّعُ دَوْمًا بِالتَّوافُقِ مَعَ اِحْتِياجاتِ السّوقِ، ما يُؤَدّي إلى تَفاقُمِ ظاهِرَةِ فَجْوَةِ المَهارات. إِضافَةً إلى ذَلِكَ، تُمَثِّلُ المُشارَكَةُ النِّسائيَّةُ في رِيادَةِ الأَعْمالِ وَنِسْبَةُ النِّساءِ في سوقِ العَمَلِ عائِقًا إِضافيًّا؛ فَفي تَقاريرَ عِدَّةٍ لِـ"البَنْكِ الدَّوْليِّ" يُذْكَرُ أَنَّ مُسْتَوَياتِ رِيادَةِ الأَعْمالِ النِّسائيَّةِ في الشَّرْقِ الأَوْسَطِ وَشَمالِ أَفْريقْيا تَتَراوَحُ ما بَيْنَ 12 وَ15 في المِئَةِ مُقارَنَةً بِمُعَدَّلٍ عالَميٍّ أَعْلَى. وَيَعْنِي ضَعْفُ الاِبْتِكارِ أَنَّ الشَّرِكاتِ الصَّغيرَةِ وَالمُتَوَسِّطَةِ تَجِدُ نَفْسَها في مُنافَسَةٍ غَيْرِ مُتَكافِئَةٍ تَتَطَلَّبُ قُدْراتٍ تِكْنولوجيَّةً وَتَسْويقيَّةً أَكْبَرَ مِمّا تَمْلِكُ عَادَة.

وتُعَدُّ المُنافَسَةُ مَعَ الشَّرِكاتِ الكُبْرَى مِنَ التَّحَدِّياتِ الجَوْهَريَّةِ: تَسْتَفيدُ هَذِهِ الشَّرِكاتُ الكُبْرَى من وَفورِ الحَجْمِ، أَيْ اِنْخِفاضِ تَكْلِفَةِ إِنْتاجِ الوَحْدَةِ عِنْدَما يَزْدادُ حَجْمُ الإِنْتاجِ بِفَضْلِ تَوْزيعِ التَّكالِيفِ على كَمِّيَّةٍ أَكْبَرَ وَتَحْسينِ الكَفاءَةِ، إلى جانِبِ العَلاقاتِ القَويَّةِ بِالمُوَرِّدينَ، وَرُسوخِ العَلامَاتِ التِّجارِيَّةِ، مَا يَجْعَلُ هَذِهِ الشَّرِكاتِ تَتَفَوَّقُ بِسُهولَةٍ في السّوقِ. أَمّا الشَّرِكاتُ الصَّغيرَةُ وَالمُتَوَسِّطَةُ فَتُواجِهُ في الأَغْلَبِ صُعوبَةً في الوُصولِ إلى سَلاسِلِ الإِمْدادِ الدَّوْليَّةِ، أَوْ في عَقْدِ صَفَقاتٍ قَيِّمَةٍ، أَوْ في الحُصولِ على شُروطٍ تُسَهِّلُ اِنْطِلاقَتَها نَحْوَ التَّوَسُّع. إلى جانِبِ ذَلِكَ، تُعَانِي الشَّرِكاتُ الصَّغيرَةُ وَالمُتَوَسِّطَةُ من بُنًى تَحْتِيَّةٍ رَقْمِيَّةٍ وَمَادِّيَّةٍ مُتَواضِعَةٍ في بَعْضِ البُلْدانِ، مَا يَعُوقُ الاِسْتِفادَةَ من اِقْتِصادِ المَعْرِفَةِ أَوِ التِّجارَةِ الإِلِكْتُرونيَّةِ، في حينِ أَنَّ الاِقْتِصادَ العالَميَّ يَتَّجِهُ بِوَتيرَةٍ مُتَسارِعَةٍ نَحْوَ الرَّقْمَنَةِ وَالتِّجارَةِ الحُرَّةِ عَبْرَ الحُدُود.

قيود تمويليّة وتنظيميَّة وتكنولوجيّة تُشَكّل حاجزًا أمام تحوُّل الشركات الصغيرة والمتوسطة إلى مُحرّكات للنّمو

تُعَدُّ التَّدَفُّقاتُ النَّقْديَّةُ من أَهَمِّ المَواضِعِ الَّتِي تُضْعِفُ قُدْرَةَ الشَّرِكاتِ الصَّغيرَةِ وَالمُتَوَسِّطَةِ، إِذْ إِنَّ تَأَخُّرَ تَسْديدِ المُسْتَحِقّاتِ مِنَ العُمَلاءِ أَوْ حَتَّى الجِهاتِ الحُكومِيَّةِ يُشَكِّلُ ضَغْطًا كَبِيرًا على السُّيولَةِ، وَيُقَوِّضُ قُدْرَةَ الشَّرِكاتِ على الاِسْتِثْمارِ أَوْ اِسْتِبْقاءِ مُوَظَّفيها. وَفي مِنْطَقَةٍ تُعَدُّ فيهَا نِسْبَةُ التَّوْظيفِ الرَّسْميِّ مَحْدودَةً، وَتَطْرَحُ بِيئَةُ التَّسْديدِ المُوقَّتِ تَحَدِّياتٍ، يُعَدُّ هَذا الأَمْرُ عَامِلَ تَعْطيلٍ حَقيقيٍّ لِلنُّمُوّ.

بِناءً على مَا سَبَقَ، يُمْكِنُ القَوْلُ إِنَّ الشَّرِكاتِ الصَّغيرَةَ وَالمُتَوَسِّطَةَ في الاِقْتِصاداتِ العَرَبيَّةِ تَمْلِكُ طاقاتٍ ضَخْمَةً – لِجِهَةِ العَدَدِ، وَالتَّوْظيفِ، وَالدَّوْرِ التَّنْمَوِيِّ المُحْتَمَلِ – غَيْرَ أَنَّها مُحاصَرَةٌ بِقُيودٍ تَمْويليَّةٍ وَتَنْظيميَّةٍ وَتِكْنولوجيَّةٍ تُشَكِّلُ حاجِزًا أَمامَ تَحَوُّلِها إلى مُحَرِّكاتٍ لِلنُّمُوّ. ذَلِكَ أَنَّ غِيابَ بيئَةِ تَمْكينٍ حَقيقيَّةٍ، إلى جانِبِ ضَعْفِ البُنَى التَّحْتيَّةِ، يَجْعَلُ مِنَ الصَّعْبِ الاِسْتِفادَةَ الكامِلَةَ من فُرَصِ التَّوَسُّعِ وَالاِنْدِماجِ في سَلاسِلِ القِيمَةِ الإِقْليميَّةِ وَالعالَميَّة. وَمن ثَمَّ، تُعَدُّ الحَاجَةُ مُلِحَّةً إلى اِسْتِجابَةٍ سِياسِيَّةٍ مُتَكامِلَةٍ تُراعِي الأَبْعادَ الوَطَنيَّةَ وَالإِقْليميَّةَ لِهَذِه المُؤَسَّسات.

(خاص "عروبة 22")
?

برأيك، ما هو العامل الأكثر تأثيرًا في تردي الواقع العربي؟





الإجابة على السؤال

يتم التصفح الآن