تقدير موقف

الحَريديم "النّاجونَ مِنَ النّار": التَّمَزُّقُ الدّاخِليُّ الإسْرائيليُّ بَيْنَ الدّينِ والدَّوْلَة!

مُنْذُ تَأْسيسِ إِسْرائيلَ عامَ 1948، ظَلَّتْ مَسْأَلَةُ العَلاقَةِ بَيْنَ الدّينِ والدَّوْلَةِ أَحَدَ أَبرَزِ خُطوطِ التَّصَدُّعِ في المُجْتَمَعِ الإسْرائيليّ. فالمَشْروعُ الصُّهْيونِيّ، الذي رَفَعَ شِعاراتٍ قَوْمِيَّةً عَلْمانِيَّةً حَداثِيَّة، وَجَدَ نَفْسَهُ مُنْذُ اللَّحْظَةِ الأولى مُضْطَرًّا لِلتَّعايُشِ مَعَ تَيّاراتٍ دينِيَّةٍ تَقليدِيَّة، أَبْرَزُها "الحَريديم" (Haredim - أَيْ الأَتْقِياء)، الذينَ يُمَثِّلونَ أَكْثَرَ الفِئاتِ انْغِلاقًا وتَشَدُّدًا في المُجْتَمَعِ اليَهودِيّ. وعلى مَدى العُقود، تَحوَّلَ الحَريديم إلى مُعْضِلَةٍ سِياسِيَّةٍ واجْتِماعِيَّةٍ كُبْرى داخِلَ إِسْرائيل، لِما يَفْرِضونَهُ مِن مَطالِبَ مُتَعارِضَةٍ مَعَ طَبيعَةِ الدَّوْلَةِ الحَديثَة، خاصَّةً في قَضايا التَّجْنيدِ العَسْكَرِيّ، والتَّعْليم، والعَمَل، والهُوِيَّةِ العامَّةِ لِلدَّوْلَة.

الحَريديم

يَصِفُ بَعْضُ الحَريديم أَنْفُسَهُم بِأَنَّهُم "النّاجونَ مِنَ النّار"؛ إِذ يَرَوْنَ في نَجاتِهِم مِن مَحارِقِ النّازِيَّةِ (الهولوكوسْت) بَعْدَ صُعودِ هِتْلِر إلى السُّلْطَة، حَدَثًا مُؤَسِّسًا لِهُوِيَّتِهِم الجَماعِيَّة، ورِسالَةً دينِيَّةً تَسْتَوْجِبُ مِنْهُم صَوْنَ نَقاءِ اليَهودِيَّةِ مِن مَوْجاتِ التَّحْديثِ والعَلْمَنَة. ويُوَلِّدُ هَذا الوَعْيُ الذّاتِيُّ شُعورًا مُتنامِيًا بِالخُصوصِيَّةِ والانْفِصالِ عن بَقِيَّةِ المُجْتَمَعِ الإسْرائيليّ، تُجَسِّدُهُ أَنْماطُ عَيْشِهِم المُنْغَلِقَةُ في أَحْياءٍ شِبْهِ مُعْزولَة، وإِدارَتُهُم لِمَدارِسِهِم الدينِيَّةِ (اليَشيفوت - Yeshivot)، بِمَعْزِلٍ عن مَناهِجِ الدَّوْلَة، إِضافَةً إلى شَبَكاتِ الرِّعايَةِ والخِدْماتِ الاجْتِماعِيَّةِ التي يُشْرِفونَ عَلَيْها بِأَنْفُسِهِم. وهَكَذا غَدَت جَماعَتُهُم، في نَظَرِ الكَثيرين، "دَوْلَةً داخِلَ الدَّوْلَة"؛ كِيانًا مُحَصَّنًا مِن قِيَمِ الانفِتاحِ والعَلْمانِيَّةِ التي أَرادَها الآباءُ المُؤَسِّسونَ لِإِسْرائيل.

التَّجْنيدُ العَسْكَرِي: قَلْبُ الصِّراع

مِن أَبْرَزِ بُؤَرِ التَّوَتُّرِ بَيْنَ الحَريديم وبَقِيَّةِ الإسْرائيلِيّينَ مَسْأَلَةُ التَّجْنيدِ في الجَيْش. فمُنْذُ تَأْسيسِ الدَّوْلَة، حَصَلَ طُلّابُ المَدارِسِ الدّينِيَّةِ على إِعْفاءٍ مِن الخِدْمَةِ العَسْكَرِيَّةِ بِدَعْوى التَّفَرُّغِ لِدِراسَةِ التَّوْراة. لكِن مَعَ تَضَخُّمِ أَعْدادِ الحَريديم (الذينَ يُشَكِّلونَ اليَوْمَ نَحْوَ 13-15% مِن سُكّانِ إِسْرائيل، مَعَ نُمُوٍّ ديموغْرافيٍّ سَريع)، باتَتْ هذِهِ الإِعْفاءاتُ تُثيرُ غَضَبَ قِطاعاتٍ واسِعَةٍ مِن المُجْتَمَعِ الإسْرائيليّ. فبَينَما يَخْدِمُ العَلْمانِيّونَ والمُتَدَيِّنونَ المُعْتَدِلونَ في الجَيْشِ لِسَنَواتٍ ويُخاطِرونَ بِأَرواحِهِم، يَبْقى الحَريديم خارِجَ دائِرَةِ الخِدْمَة، بَلْ يَعيشُ الكَثيرُ مِنْهُم على المُخَصَّصاتِ الحُكومِيَّة.

العلمانيون يرون أنّ ضرائبهم تنفق لإعالة فئة ترفض الاندماج في الاقتصاد العصري

كُلُّ مُحاوَلَةٍ لِإِلْغاءِ أَو تَقْليصِ هذِهِ الإِعْفاءاتِ فَجَّرَتِ احْتِجاجاتٍ ضَخْمَةً مِن الحَريديم، وَصَلَتْ إلى شَلِّ الطُّرُقاتِ في القُدْسِ وتَحَدّي الشُّرْطَة. في المُقابِل، يَرى العَلْمانِيّونَ أَنَّ استِمْرارَ هذا الوَضْعِ يُقَوِّضُ مَبْدَأَ المُساواةِ في "دَوْلَةِ المُواطَنَة"، ويُعَمِّقُ الفَجْوَةَ بَيْنَ المَجْموعات.

وبَعْدَ "طوفانِ الأَقْصى"، تَعمَّقَتِ الأَزْمَةُ وزادَتْ حِدَّةُ الخِلافاتِ الدّاخِِلِيَّةِ وفَشِلَتْ كُلُّ مُحاوَلاتِ تَطبيقِ قانونِ تَجْنيدِ الحَريديم، وتُفكِّرُ إِسْرائيلُ الآنَ في تَجْنيدِ اليَهودِ مِن بُلْدانٍ أُخْرى لِلخُروجِ مِنَ الأَزْمَة.

الاقْتِصادُ والعَمَل: عِبْءٌ ثَقيل

أَزْمَةُ الحَريديم لا تَتَوَقَّفُ عِندَ التَّجْنيد، إِنَّما تَمْتَدُّ إلى الاقْتِصاد. نِسْبَةٌ كَبيرَةٌ مِن رِجالِ الحَريديم لا يُشارِكونَ في سُوقِ العَمَل، إِذ يُكَرِّسونَ حَياتَهُم لِلدِّراسَةِ الدّينِيَّة، بَيْنَما تَتحمَّلُ الدَّوْلَةُ عِبْءَ إِعالةِ عائِلاتِهِم الكَبيرَةِ (مُتَوَسِّطُ الأُسْرَةِ الحَريديَّةِ يَتجاوَزُ 6 أَطْفال). هَذا الواقِعُ خَلَقَ تَوتُّراتٍ حادَّة، خاصَّةً مَعَ العَلْمانِيّينَ الذينَ يَرَوْنَ أَنَّ ضَرائِبَهُم تُنْفَقُ لِإِعالةِ فِئَةٍ تَرْفُضُ الانْدِماجَ في الاقْتِصادِ العَصْرِيّ.

نزعة الحريديم التصادمية تُشعل جدالات حادة حول تعريف إسرائيل

ومَعَ أَنَّ هُناكَ مُحاوَلاتٍ لِتَشْجيعِ دَمْجِ الحَريديم في سُوقِ العَمَل، إِلَّا أَنَّ هَذِهِ الجُهودَ تَصْطَدِمُ بِعَقَباتٍ دينِيَّةٍ واجْتِماعِيَّة، أَبْرَزُها رَفْضُ إِدْخالِ الإِنْتِرنِت أَوِ التَّعْليمِ الحَديثِ إلى المَدارِسِ الحَريدِيَّة، مَا يَجْعَلُ أَجْيالًا كامِلَةً تَفْتَقِرُ إلى المَهاراتِ اللّازِمَةِ لِلعَمَلِ في الاقْتِصادِ الإسْرائيليِّ المُتَطَوِّر.

الهُوِيَّةُ والفَضاءُ العام

إِلى جانِبِ التَّجْنيدِ والعَمَل، يُشَكِّلُ الفَضاءُ العامُّ ساحَةَ مُواجَهَةٍ أُخْرى. فالحَريديم يَسْعَوْنَ إلى فَرْضِ قُيودٍ دينِيَّةٍ على أَنْماطِ الحَياةِ في إِسْرائيل: إِغْلاقِ المَتاجِرِ أَيّامَ السَّبْت، الفَصْلِ بَيْنَ الجِنْسَيْنِ في الحافِلاتِ والأَماكِنِ العامَّة، وحَظْرِ المَهْرَجاناتِ الفَنِّيَّةِ أَوِ الثَّقافِيَّةِ المُخالِفَةِ لِتَصَوُّراتِهِم. هذِهِ النَّزْعَةُ التَّصادُمِيَّةُ مَعَ الحَداثَةِ والعَلْمانِيَّةِ تُوَلِّدُ احْتِكاكاتٍ مُتَكرِّرَةً مَعَ قِطاعاتٍ واسِعَةٍ مِنَ المُجْتَمَع، وتُشْعِلُ جِدالاتٍ حادَّةً حَوْلَ تَعْريفِ إِسْرائيل: هَل هِيَ "دَوْلَةٌ يَهودِيَّةٌ دينِيَّةٌ" أَمْ "دَوْلَةٌ يَهودِيَّةٌ ديموقْراطِيَّة"؟.

السّاسَةُ بَيْنَ الابْتِزازِ والبْراغْماتِيَّة

مِنَ النّاحِيَةِ السِّياسِيَّة، تُمَثِّلُ الأَحْزابُ الحَريديَّةُ "بَيْضَةَ القَبّانِ" في تَشْكيلِ الحُكوماتِ الإسْرائيلِيَّة. فَهِيَ غالِبًا ما تَمْلِكُ مَقاعِدَ حاسِمَةً عِدَّةً في الكْنيسِت، مَا يَجعَلُها قادِرَةً على ابْتِزازِ الأَحْزابِ الكُبْرى لِلحُصولِ على امْتِيازاتٍ مالِيَّةٍ وتَشْريعِيَّة.

قد تجد إسرائيل نفسها أمام نموذج "حرب ثقافية" شاملة

حُكوماتُ نِتِنْياهو المُتَعاقِبَةُ اعْتَمَدَت على دَعْمِ الحَريديم، مُقابِلَ تَعْزيزِ ميزانِيّاتِ مَدارِسِهِم، وزِيادَةِ المُخَصَّصاتِ المالِيَّةِ لِلأُسَرِ الكَبيرَة، وحِمايَةِ إِعفاءاتِ التَّجْنيد. لَكِنَّ هذِهِ التَّنازُلاتِ فاقَمَتِ الانْقِسامَ داخِلَ المُجْتَمَعِ الإسْرائيليّ، وأَشْعَلَتِ احْتِجاجاتِ العَلْمانِيّينَ الذينَ يَتَّهِمونَ الحُكوماتِ بِالخُضوعِ لابْتِزازٍ دينيّ.

التَّمَزُّقُ الدّاخِلِيّ: قُنْبُلَةٌ مَوْقوتَة

هَذا الصِّراعُ بَيْنَ الحَريديم والعَلْمانِيّينَ يُمَثِّلُ قُنْبُلَةً مَوْقوتَةً تُهَدِّدُ وَحْدَةَ المُجْتَمَعِ الإسْرائيليّ. فَإِسْرائيلُ تُواجِهُ تَحَدِّياتٍ أَمْنِيَّةً خَطيرَةً مِنَ الخارِج، لكِنَّ الانْقِسامَ الدّاخِلِيَّ قد يَكونُ الخَطرَ الأَعْمَق. كُلَّما ازْدادَ ثِقَلُ الحَريديم الدّيموغْرافِيُّ والسِّياسِيّ، تَعاظَمَ الصِّراعُ حَوْلَ هُوِيَّةِ الدَّوْلَةِ ووَجْهَتِها. وإِذا اسْتَمَرَّ الوَضْعُ على حالِه، فَقَدْ تَجِدُ إِسْرائيلُ نَفْسَها أَمامَ نَموذَجِ "حَرْبٍ ثَقافِيَّةٍ" شامِلَة، تُضْعِفُ مَناعَتَها الدّاخِليَّةَ وتُقَوِّضُ قُدْرَتَها على مُواجَهَةِ تَحَدِّياتِ الخارِج.

إنَّ "الحَريديم" هُم مِحْوَرٌ رَئيسِيٌّ في جَدَلِيَّةِ الدّينِ والدَّوْلَة، وفي أَزْمَةِ الهُوِيَّةِ الإسْرائيلِيَّةِ ذاتِها. إِنَّهُم يُذَكِّرونَ إِسْرائيلَ بِأَنَّ مَشْروعَها الصُّهْيونِيَّ العَلْمانِيَّ لَم يَنْجَحْ في تَذْويبِ كُلِّ التَّناقُضات، بَلْ أَسَّسَ لِدَوْلَةٍ مَشْطورَةٍ بَيْنَ رُؤْيَتَيْن: واحِدَةٍ تُريدُ إِسْرائيلَ دَوْلَةً قَوْمِيَّةً حَديثَةً على النَّموذَجِ الغَرْبيّ، وأُخْرى تَراها كِيانًا دينِيًّا رَسولِيًّا يَحْتَكِمُ لِلتَّوْراةِ أَكثَرَ مِنَ الدُّسْتور. وفي ظِلِّ هذا التَّناقُض، يَبقَى السُّؤالُ مَفْتوحًا: هَل تَستَطيعُ إِسْرائيلُ التَّوْفيقَ بَيْنَ هاتَيْنِ الرُّؤْيَتَيْن، أَم أَنَّ الانْقِسامَ الدّاخِلِيَّ سَيَظَلُّ يَتَعَمَّقُ حتّى يَتَحَوَّلَ إلى صَدْعٍ يُهَدِّدُ الكِيانَ مِنَ الدّاخِل؟.

(خاص "عروبة 22")
?

برأيك، ما هو العامل الأكثر تأثيرًا في تردي الواقع العربي؟





الإجابة على السؤال

يتم التصفح الآن