التهديدات التي تحاصر لبنان ذات أبعاد استراتيجية بعيدة المدى.. لبنان يتعرض لخطر وجودي، خطر يفوق الحرب الأهلية الكارثية (1975 - 1990) ، ويفوق المحاصصة والطائفية، بل إنه خطر أصعب من اجتياح إسرائيل للبنان عامي 1978، ثم 1982. وقد يكون الخطر الماثل أكثر ضراوة من حرب يوليو 2006، بل إنه يصل إلى مدى لم تصله حرب الإسناد لغزة عام 2023، التي خاضها "حزب الله" مع إسرائيل. هذا الخطر الحالي يتمثل في مخططات بعيدة المدى، تدور حول إذابة لبنان كدولة وشعب، وشطب "ست" الدنيا "بيروت" من خرائط العواصم العربية التنويرية الكبرى.
اللعبة هنا كبيرة، تدور على رقعة شطرنج من لاعبين إقليميين، يرون في لبنان مغنماً قادماً من خلال امتلاكه موارد طبيعية، تتمثل في الغاز والبترول الموجودين في ساحل المتوسط المقابل للبنان، والمملوك له بحكم أنه المنطقة الاقتصادية، طبقاً للقوانين الدولية. هناك من يرغب في جعل لبنان ميدان رماية، وهناك من يرى في الثروة اللبنانية من غاز وبترول مخزناً للمستقبل، أو إضافة لما يملك من الموارد نفسها، لذا فإن جميع الأطراف لديها جدول أعمال في التعاطي مع الملف اللبناني، كل وفق حساباته ومصالحه.
نعرف أن هناك قراراً دولياً، هو 1701، الصادر من مجلس الأمن، ذلك القرار الذي رسم الحدود بين إسرائيل ولبنان، ووضع خطوطاً صارمة لمنع اعتداء إسرائيل على لبنان، بمراقبة قوات اليونيفيل، لكن إسرائيل - كوظيفة - تريد أولاً قضم الجنوب اللبناني حتى نهر الليطاني. وثانياً تقوم بالدور المنوط بها في منع لبنان من الاستقرار بمحاولة زرع الفتنة بين الطوائف اللبنانية المختلفة، في وصفة كثيراً ما جربتها في الساحة اللبنانية، لذا نتابع يومياً، بل في كل ساعة، الاعتداءات الإسرائيلية على لبنان، وفي الوقت ذاته تقوم بالضغط على الحكومة اللبنانية لترتيب الأوضاع الداخلية طبقاً لمخططاتها بعيدة المدى.
هناك أطراف أخرى لديها النزوع الإسرائيلي نفسه، لكنها تستخدم أدوات أخرى باسم قضايا مقدسة كالقضية الفلسطينية، أو الدفاع عن الحقوق، وبعض تلك الأطراف تستخدم المال والإعلام والدبلوماسية في تنفيذ مخططاتها، ومصالحها الاستراتيجية، دون النظر للمصلحة اللبنانية، بينما أطراف دولية أخرى تنظر إلى لبنان كملكية خاصة يمكن القفز منها على المنطقة.
وفي كل الأحوال لا يجد اللبناني نفسه في كل هذه المشروعات، وهو السياسي والمثقف والفنان والمبدع على مر العصور، فإذا تُرك لشأنه الخاص، سوف يبهر المنطقة والعالم، وكثيراً ما حدث ذلك عبر عقود طويلة، حتى قبل الاستقلال عام 1920، فلبنان قدم الشعراء، والكتّاب والمفكرين، ولا ننسى شعراء المهجر الذين ملأوا الأرض في النصف الغربي بالإبداع العظيم. وسط كل هذا الحصار السياسي والاقتصادي والاجتماعي على لبنان، فإن اللحظة تستوجب من كل هذه الأطراف أن ترفع أيديها عن لبنان.
فأولاً: لبنان دولة مستقلة، وشعب حر، ويستحق أن ينفصل عن كل المشاريع التي لا تصب في مصلحته.
ثانياً: إن جغرافية لبنان، شاء حظها أن تكون في مفرق صدام على مدى قرن كامل بوجود إسرائيل التي نشأت عام 1948، فتلقى صدى الحروب جميعاً، بل أحياناً يكون هو المصد الأول للغزو والاجتياح، وقد تعرض لذلك أكثر من مرة خلال مئة عام.
ثالثاً: إن لبنان دولة عضو في جامعة الدول العربية، ويجب على العرب أن يرفعوا الصوت عالياً، بأنه كفى تدخلاً في لبنان، وكفى أن تدس أطراف إقليمية أنفها في الشأن اللبناني، لا سيما أن بعض هذه الأطراف غير مخلص للقضايا العربية، إنما تبحث عن توسعاتها الإقليمية. وتكشف علناً هذه الرغبة، ظناً أن المنطقة فارغة أو خالية، في حين أن المنطقة لديها أصحاب يعرفون أقدارها، ومقاديرها، ويستطيعون الدفاع عنها إذا استوجب الأمر.
رابعاً: يجب على المجتمع الدولي أن يعيد حساباته تجاه لبنان، ويطبق قرار 1701، كما ينبغي له أن يمنع إسرائيل من الاعتداء على الشعب اللبناني، ويعاقب المتطرفين، الذين ينظرون إلى لبنان كمغنم، أو كما قلت من قبل «ميدان رماية».
فهناك دول عالمية تعتبر لبنان جزءاً من هويتها، كفرنسا على سبيل المثال، وهناك من يعتبرها نقطة انطلاق، ولكن من يقرأ التاريخ بعمق يتأكد له أن لبنان لن يكون "ترانزيت" للقفز على الإقليم، ويجب أن ينتهى كل ذلك في الفلسفة السياسية العالمية، فليس سهلاً شطب لبنان من الجغرافيا، أو تغييبه من التاريخ.
(البيان الإماراتية)

