انفرطت مسبحة "العقيق" السودانية وتناثرت حباتها بسرعة مذهلة على طاولة "البوكر" التي يجلس حولها مقامرون من جنسيات متعددة يراهنون على مزيد من تقسيم أكبر دولة في إفريقيا قبل انفصال الجنوب عنها. وارجو ألا يغضب السودانيون من صراحتي إذا قلت أن "العثة" التي أكلت خيط المسبحة كانت "عثة" محلية تحمل جوازا وطنيا وتتكلم اللغة العربية وتؤدي الصلوات الخمس في أوقاتها.
كان "جعفر نميري" آخر حاكم استوعب ان السودان سبعة أقاليم مختلفة حضاريا وثقافيا وقبليا وعقائديا ولغويا ولا يوحد بينها سوي أمطار استوائية أو عواصف رملية وبجرأة غير مسبوقة منح كل إقليم حكما ذاتيا فور ان سيطر على القيادة العسكرية في معسكر "الشجرة" جنوب الخرطوم حيث التقيت به أكثر من مرة بصفتي رئيس تحرير مجلة "الوادي" المصرية السودانية. لكن ما ان سيطر على عقل "جعفر نميري" مرشد الإخوان "حسن الترابي" بدعوى ان الله سيمنحه الولد الذي يشتاق اليه ليرث ثروته لو طبق الشريعة حتى كان مستشاره الشيوعي السابق "محمد محجوب" جاهزا بكتاب "النهج الإسلامي" الذي وضع الرئيس المنفلت والمحب للخمر والرقص الشرقي اسمه عليه.
فرض الشمال لغته العربية وديانته الإسلامية على أقاليم وثنية فاستردت الفتنة شراستها وجددت الحرب الأهلية نيرانها ولم تفلح دماء الأبرياء التي تناثرت على الخريطة في ان تستعيد البلاد وحدتها. وطار "جعفر نميري" الى واشنطن ليتلقى توبيخا مهينا من "رونالد ريجان" وما أن انتهت الزيارة حتى كرر الصحفيون في قاعدة "اندراوس" الجوية عليه السؤال نفسه "إلى اين ستعود؟" وعندما قال في عصبية "أنا عائد الى الخرطوم طبعا" لم تكن اجابته صحيحة وكان آخر من يعلم انه لن يرجع الى السودان وإنما سيبقي في مصر بنصيحة من "حسني مبارك" الذي كان ينتظره في المطار.
لم تستمر حالة الديمقراطية طويلا في السودان وسرعان ما سقط حكم "الصادق المهدي" بانقلاب دبره "حسن الترابي" الذي جاء بجنرال مجهول يخدم في الجنوب لم يعرف دوره إلا قبل ساعة الصفر بأيام قليلة هو "عمر البشير". لكن الرئيس الجديد للسودان كان أكثر تشددا وتطرفا وانغلاقا ولم يسبق لشمس العقل ان سطعت بنورها في رأسه واستيقظت لديه غريزة الثأر وتقمص شخصية "عمرو بن العاص" وقرر ان يفتح السودان بالسيف ليدخل غير المسلمين في الدين الحنيف. ومرة اخرى تجددت الحرب الأهلية في حالة من الخرف السياسي بلا حدود ليرتكب "عمر البشير" كل الحماقات الممكنة وغير الممكنة.
استقبل زعيم تنظيم القاعدة "أسامة بن لادن" وفتح معسكرات الجيش لتدريب التنظيمات الإرهابية على قلب نظام الحكم في مصر ومنها خرجت المجموعة التي حاولت اغتيال "مبارك" في أديس أبابا. إن نهر النيل الذي يأتي من عيون السودانيين ليصب في قلوب المصريين فاض بكثير من الدم والدموع وبعد ان كان شريان حياة يوحد بينهما صار سطحا من النار فوق المياه التي تأتي من هناك الي هنا. بعد ان كان الخير يأتي إلينا من هناك صار الشر هو البديل.
إن السودان هو العمق الاستراتيجي لمصر وتمتد الحدود بين البلدين إلي 1276 كيلومترا بينما طول الحدود بين مصر وغزة لا يزيد عن 12 كيلومترا لكن رغم ذلك لا نهتم بالسودان كما نهتم بفلسطين. بعد هزيمة يونيو نقلت الكلية الحربية إلى الخرطوم التي شهدت قمة المصالحة العربية التي رفضت الصلح والتفاوض والاعتراف بإسرائيل. ويأخذ السودانيون علينا انهم يعرفون مصر حارة وراء حارة وناصية بعد ناصية بينما نحن نجهل عنهم الحد الأدنى من المعلومات.
ولكن يأخذ المصريون عليهم انهم اكثر من أربعين ألف جنرال ورئيس ومفكر حسب عدد السكان وفي الوقت نفسه تركوا بلادهم فريسة لحكام أهملوا ثرواتها وقتلوا أهلها ومزقوا ارضها وشردوا قبائلها واغتصبوا نساءها وذبحوا أطفالها ولم يفهموا طبيعتها ولم يستوعبوا حقيقتها. على ان أكثرهم سوءا هو "عمر البشير" الذي أصيب بحمى مزمنة جعلته يتصور انه يعيش في جاهلية جديدة. وسر تميزه في السوء انه وهو يتصور نفسه يقاتل في سبيل الله صنع صنما أطلق عليه "قوات الدعم السريع" منح قائدها "راعي الإبل" الذي لا يفك الخط رتبة عسكرية عليا ليبدو مثل مارشالات "سيدنا الحسين" هو "حميدتي" أو "حميتي" كما ينطقها السودانيون.
سقط "البشير" بانتفاضة شعبية لكنه ترك خلفه تلك الميليشيات المسلحة التي ترك لها مناجم الذهب لتمول نفسها بنفسها. استلهم الفكرة من "الحرس الثوري الإيراني" لكنه لم يقرأ كتاب "الأمير" الذي كتبه "نيكولو ماكيافيلي" في عام 1513ونصح فيه الحكام بالابتعاد عن "المقاتلين المأجورين" بعد تحليله ظاهرة المرتزقة الإيطاليين المعروفين باسم "الكوندوتييري" مؤكدا ان الدافع المالي يخلق معادلة صفرية تدمر الكيان السياسي. لو انتصر قائد المرتزقة فسوف يطالب بنصيب من السلطة إذا لم يستولِ عليها كلها وإذا هزم يفر هاربا دون ان يخسر شيئا.
ويمكن القول ان "حميدتي" جرب الحالتين فهو انتصر وانهزم وكسب ارضا وانسحب منها لكنه لا يزال يستمر في الحرب ضد السلطة الشرعية ليحقق للعبة الأمم التي تجري في السودان المزيد من المجازر الجماعية التي تحصد المئات في ساعات حتى تسعى الأقاليم واحدا بعد آخر الي اللحاق بمصير الجنوب. وسيذهب "حميدتي" الى الجحيم ولكن بعد ان يفتح ابوابه على مصاريعها أمام السودان. سيتكرر السيناريو كما هو.
حرب أهلية تعقبها مذابح جماعية ثم تتدخل قوي خارجية لتفرض دولة انفصالية جديدة. ونحن لا نلدغ من جحر مرتين وإنما عشر مرات بعد ان أدمنا اللدغ. فهل تستعيد الأمة العربية رشدها وتنقذ السودان حتى لا تجد دول أخرى نفسها مهددة بالمصير نفسه؟.
(الأهرام المصرية)

