بصمات

الخَيالُ السِّياسيُّ في العَقلِ العَرَبي!

لا يُمْكِنُ فَهْمُ مَأْزِقِ الفِكْرِ والسِّياسَةِ في العالَمِ العَرَبيِّ مِن خِلالِ الادِّعاءِ بِغِيابِ التَّحليلِ أو ضَعْفِ النَّقْد. عَلى العَكْسِ، يَشْهَدُ الفَضاءُ الفِكْرِيُّ العَرَبِيُّ وَفْرَةً واضِحَةً في القِراءاتِ التَّاريخِيَّةِ والسِّياسِيَّة، وَامتِلاءً بِالتَّشْخيصاتِ وتَعْدادِ أَسْبابِ الإِخْفاق، بَلْ وأَحْيانًا تَقْديمَ "وَصْفاتٍ" جاهِزَةٍ لِلعِلاج. نَحْنُ نُحَلِّلُ الدَّوْلَة، ونُفَكِّكُ السُّلْطَة، ونَشْرَحُ الاسْتِبْداد، ونَعودُ إِلى التّاريخِ القَريبِ والبَعيدِ بَحْثًا عَن لَحَظاتِ الخَلَلِ التَّأسيسِيَّة. وَمَعَ ذلِك، يَظَلُّ سُؤالُ المُسْتَقبَلِ مُعَلَّقا. لَيْسَ لأََِنَّنا نَفْتَقِرُ إِلى أَدَواتِ الفَهْم، بَلْ لِأَنَّنا نَفْتَقِرُ إِلى قُدْرَةٍ مُوازِيَةٍ عَلى تَخَيُّلِ ما لَم يُوجَدْ بَعْد. هُنا تَحْديدًا تَبْرُزُ مَعْضِلَةُ الخَيالِ السِّياسِيّ.

الخَيالُ السِّياسيُّ في العَقلِ العَرَبي!

الخَيالُ، في هَذا السِّياق، لا يَعْني أَحْلامًا رومانْسِيَّةً أو تَصَوُّراتٍ مِثالِيَّةً مُنْفَصِلَةً عَنِ الواقِع، بَلْ يُشيرُ إِلى القُدْرَةِ الذِّهْنِيَّة، الفَرْدِيَّةِ والجَماعِيَّة، عَلى التَّفكيرِ في البَدائل. هُوَ القُدْرَةُ عَلى تَصَوُّرِ أَشْكالٍ مُخْتَلِفَةٍ لِلتَّنْظيمِ السِّياسِيّ، وأَنْماطٍ جَديدَةٍ لِلعَلاقَةِ بَيْنَ السُّلْطَةِ والمُجْتَمَع، ومَساراتٍ مُحْتَمَلَةٍ لا تُختَزَلُ في مُجَرَّدِ إِطالَةِ أَمَدٍ لِلْحاضِر. حينَ يَضْعُفُ هَذا الخَيال، تَضيقُ مَساحاتُ الحُلول، ويَتَحوَّلُ المُسْتَقبَلُ إِلى نُسْخَةٍ رَديئَةٍ مِنَ الواقِعِ القائِم، مَعَ بَعْضِ التَّعْديلاتِ الشَّكْليَّةِ الَّتي لا تَمَسُّ جَوْهَرَ الأَزَمات.

في عالَمِنا العَرَبِيّ، يَتُمُّ التَّعامُلُ مَعَ الواقِعِ السِّياسيِّ والاجْتِماعيِّ بِوَصْفِهِ مُعْطًى شِبْهِ طَبيعِيّ، لا بِوَصْفِهِ نَتيجَةً تَاريخِيَّةً لِتَوازُناتٍ وصِراعاتٍ واِخْتِياراتٍ بَشَرِيَّةٍ قابِلَةٍ لِلمُراجَعَة. الدَّوْلَةُ الوَطَنِيَّة، وشَكْلُ السُّلْطَة، وحُدودُ المَجالِ العامّ، وأَنْماطُ الحُكْم، يَتُمُّ تَقْديمُها كَما لَوْ كانَتْ حَقائِقَ نِهائِيَّةً لا يَجوزُ التَّفْكيرُ خارِجَها. هَكَذا يَتَحوَّلُ دَوْرُ الفِكْرِ السِّياسيِّ مِن مُساءَلَةِ البُنى السِّياسِيَّةِ والاجْتِماعِيَّةِ إِلى التَّكَيُّفِ مَعَها، ومِن تَخَيُّلِ البَدائلِ إِلى إِدارَةِ المُمْكِنِ القائِم. هُنا يُصْبِحُ السُّؤالُ الأَساسِيّ: كَيْفَ نَسْتَمِرُّ بِأَقَلِّ الخَسائِر؟ لا: كَيْفَ يُمْكِنُ أَنْ يَكونَ الواقِعُ مُخْتَلِفًا؟.

مفاهيم تُستورد كما هي من دون إعادة تفكير في شروط نشأتها أو في ملاءمتها لسياقاتنا الخاصة

يَزْدادُ هَذا المَأْزِقُ تَعْقيدًا حينَ نُقِرُّ بِحَقيقَةِ أَنَّ عِلْمَ السِّياسَةِ الحَديثَ بِشَكْلٍ خاصٍّ والعُلومَ الاجْتِماعيَّةَ بِشَكْلٍ عامّ، بِمَفاهيمِها وأَدَواتِها الأَساسِيَّة، هِيَ في جَوْهَرِها نِتاجُ التَّجارِبِ الفِكْريَّةِ والسِّياسِيَّةِ والتَّاريخِيَّةِ الغَربِيَّة. هَذا واقِعٌ لا يُمْكِنُ إِنْكارُه. لَكِنَّ الإِشْكالَ لا يَكْمُنُ في الاِعْتِرافِ بِه، بَلْ في التَّعامُلِ مَعَهُ بِوَصْفِهِ قَدَرًا حَتْمِيًّا لا مَجالَ لِلاِشْتِباكِ مَعَهُ أوْ إِعادَةِ إِنْتاجِهِ اِنطِلاقًا مِن تَجارِبِنا التّاريخِيَّةِ والثَّقافِيَّةِ المُخْتَلِفَة. فَمَفاهيمُ مِثْلَ الدَّوْلَةِ الوَطَنِيَّة، والعَقْدِ الاِجْتِماعِيّ، والفَصْلِ بَيْنَ السُّلُطات، والمَجالِ العامّ، تُسْتَوْرَدُ غالِبًا كَما هِي، مِنْ دونِ إِعادَةِ تَفكيرٍ جِدّيٍّ في شُروطِ نَشْأَتِها أو في مُلاءَمَتِها لِسِياقاتِنا الخاصَّة.

النَّتيجَةُ هِيَ بُنى شَكْلِيَّة: دُوَلٌ لَيْسَت دُوَلًا مُكْتَمِلَة، وأَحْزابٌ لَيْسَتْ أَحْزابًا بِالمَعنى الفِعْلِيّ، واِنْتِخاباتٌ تُجْرى مِن دونِ أَن تُفْضِيَ إِلى تَداوُلٍ حَقيقيٍّ لِلسُّلْطَة. لَدَيْنا مُؤَسَّساتٌ تَحْمِلُ الأَسْماء، لَكِنْ تَفْتَقِرُ إِلى الوَظائِف. لا نَحْنُ نَجَحْنا في بِناءِ نَماذِجَ أَصيلَةٍ نابِعَةٍ مِن واقِعِنا، ولا نَحْنُ لَحِقْنا فِعْلِيًّا بِتَجارِبِ التَّحْديثِ الَّتي استَوْرَدْناها. وَهَكَذا بَقينا في مَنْطِقَةٍ رَمادِيَّة، لا هِيَ تَقليدِيَّةٌ بِالكامِلِ ولا حَداثِيَّةٌ عَن حَقّ.

حينَ حاوَلَتْ بَعْضُ التَّيّاراتِ الفِكْرِيَّة، خُصوصًا الإِسْلامِيَّة، تَقْديمَ بَديلٍ مُخْتَلِف، لَم تَتَّجِهْ غالِبًا إِلى المُسْتَقبَلِ، بَلْ إِلى الماضِي. بَدَلًا مِن إِطْلاقِ الخَيالِ لِتَصَوُّرِ صِيَغٍ جَديدَةٍ لِلحُكْمِ وَالتَّنظيمِ السِّياسِيّ، جَرى اسْتِدْعاءُ تَجارِبَ تَاريخِيَّةٍ بَعيدَةٍ وَإِعادَةُ تَدويرِها تَحْتَ عَناوينَ مِثْلَ "أَسْلَمَةِ العُلومِ" أَوْ "النَّموذَجِ الإِسْلامِيّ". فَتَحَوَّلَتِ المُحاوَلَةُ مِن تَخَيُّلِ واقِعٍ جَديدٍ إِلى اسْتِعادَةِ ماضٍ لَمْ يَعُدْ قائِمًا بِشُروطِهِ وَلا بِسِياقاتِه. وَهَكَذا اِنْقَسَمَ المَشْهَدُ العَرَبِيُّ إِلى فُسْطاطَيْنِ: فُسْطاطٍ يُصِرُّ عَلى إِعادَةِ إِنْتاجِ الماضِي، وَآخَرَ يَقْبَلُ التَّجْرِبَةَ الغَرْبِيَّةَ كَما هِيَ، مِن دونِ تَعْدِيلٍ أَو مُساءَلَة. وَفي الحالَتَيْن، ظَلَّ الخَيالُ السِّياسِيُّ مُعَطَّلا.

الكثير من تجارب التغيير في العالم العربي دخلت لحظات مفصلية من دون تصوّر واضح لما بعدها

يَتَجَلّى هَذا الخَلَلُ بِوُضوحٍ فِي الخِطابِ السِّياسِيِّ العامّ. فَمَفاهيمُ مِثْلَ الحُرِّيَّة، وَالعَدالَة، وَالدّيموقْراطِيَّة، وَالمُواطَنَة، حاضِرَةٌ بِقُوَّة، لَكِنَّها غالِبًا تُطرَحُ كَشِعاراتٍ أَخْلاقِيَّةٍ عامَّة، لا كَمَشاريعَ سِياسِيَّةٍ مُتَكامِلَة. نَتَحَدَّثُ عَنِ الدَّوْلَةِ العادِلَةِ مِن دونِ الخَوْضِ في كَيْفِيَّةِ إِعادَةِ تَوْزيعِ السُّلْطَةِ أَوِ المَوارِدِ داخِلَها، وَعَنِ الدّيموقْراطِيَّةِ مِن دونِ التَّفْكيرِ الجِدِّيِّ في عَلاقَتِها بِالأَمْنِ أَو بِبُنْيَةِ الدَّوْلَة، وَعَنِ الحُقوقِ مِن دونِ تَصَوُّرٍ واضِحٍ لِتَوازُنِها مَعَ مُؤَسَّساتٍ وَحَساسِيّاتِ الحُكْم. يَقِفُ الخَيالُ هُنا عِنْدَ مُسْتَوى الرَّغْبَة، وَلا يَجْرُؤُ أَن يَتَحَوَّلَ إِلى مُسْتَوى البِناء.

هَذا القُصورُ لا يَظَلُّ حَبيسَ الخِطاب، بَلْ يَنعَكِسُ مُباشَرَةً عَلى مَسارِ الفِعْلِ السِّياسيِّ وَقَد ظَهَرَ ذَلِكَ جَلِيًّا فِي تَجْرِبَةِ الثَّوْراتِ العَرَبِيَّةِ في 2010-2011. الكَثيرُ مِن تَجارِبِ التَّغْييرِ في العالَمِ العَرَبيِّ دَخَلَتْ لَحَظاتٍ مِفْصَلِيَّةً مِن دونِ تَصَوُّرٍ واضِحٍ لِما بَعْدَها. كانَ هُناكَ اسْتِعدادٌ لِلتَّضْحِيَةِ وَالمُواجَهَة، لَكِنْ غابَ الخَيالُ السِّياسِيُّ وَالمُؤَسَّسِيُّ القادِرُ عَلى رَسْمِ مَلامِحِ البَديل. اِنْهارَ القَديم، لَكِنَّ الجَديدَ لَم يَكُنْ حاضِرًا حَتّى عَلى مُسْتَوى الفِكْرَة. لِذَلِكَ لَمْ يَكُنِ التَّعثُّرُ فِي هذِهِ الثَّوْراتِ مُفاجِئا، بَلْ نَتيجَةً طَبيعِيَّةً لِغِيابِ الخَيالِ في المَراحِلِ السّابِقَة.

لا تكمن الأزمة في غياب النقد بل في غياب الخيال الذي يمنح النقد أفقًا

التّاريخُ المُقارَنُ يُقَدِّمُ صورَةً مُخْتَلِفَة. التَّحَوُّلاتُ الكُبْرى في أوروبّا لَم تَبْدَأْ بِخُطَطٍ تِقْنِيَّةٍ جاهِزَة، بَلْ بِتَصَوُّراتٍ كَسَرَت أُفُقَ المُمْكِنِ السّائِد. الدَّوْلَةُ الحَديثَة، وَالمُواطَنَة، وَالفَصْلُ بَينَ السُّلُطاتِ، وَالعَدالَةُ الاِجْتِماعِيَّة، كانَتْ أَفْكارًا مَرْفوضَةً أَو غَيْرَ واقِعِيَّةٍ فِي زَمَنِها، لَكِنَّها تَحَوَّلَت إِلى حَقائِقَ لأَنَّ الخَيالَ سَبَقَ التَّنْظيمَ وَالبِناء، وَلأَنَّ تَصَوُّرًا جَديدًا لِلعالَمِ فُرِضَ أَوَّلًا فِي المَجالِ الفِكْريِّ قَبْلَ أَن يَتَحَقَّقَ مُؤَسَّسِيًّا عَلى أَرْضِ الواقِع.

في العالَمِ العَرَبِيّ، غالِبًا ما يُسْتَدعى الخَيالُ مُتَأَخِّرًا، أَو يُسْتَبدَلُ بِاِسْتيرادِ نَماذِجَ جاهِزَة. في الحالَتَيْن، لا يُؤَدِّي دَوْرَهُ بِوَصْفِهِ قُوَّةَ إِنْتاجٍ لِلمَعنى، بَلْ يَتَحَوَّلُ إِلى رَدِّ فِعْلٍ أَو مُجَرَّدِ "ديكورٍ" خِطابِيّ. وَهَكَذا يُغْلَقُ سُؤالُ المُسْتَقبَلِ بَدَلَ أَن يُفتَح. إِنَّ عَمَلِيَّةَ اِسْتِعادَةِ الخَيالِ لا تَعْني إِنْكارَ الواقِعِ أَو تَجاهُلَ مَوازينِ القُوَّة، بَل تَعْني التَّعامُلَ مَعَ المُسْتَقبَلِ بِوَصْفِهِ مَجالًا مَفْتوحًا لِلصِّراعِ الفِكْريِّ وَالسِّياسِيّ، لا مَسارًا مُغْلَقًا تُحَدِّدُهُ الشُّروطُ الرّاهِنَةُ وَحْدَها. رُبَّما لا تَكْمُنُ الأَزْمَةُ فِي غِيابِ النَّقْد، بَلْ فِي غِيابِ الخَيالِ الَّذي يَمْنَحُ هَذا النَّقْدَ أُفُقًًا. وَمِن دونِ خَيال، يَبْقى التَّفْكيرُ في التَّغْييرِ مُؤَجَّلا، لا لأَِنَّهُ مُسْتَحيل، بَلْ لأَنَّ أَحَدًا غَيْرَ قادِرٍ عَلى تَصَوُّرِه.

(خاص "عروبة 22")
?

برأيك، ما هو العامل الأكثر تأثيرًا في تردي الواقع العربي؟





الإجابة على السؤال

يتم التصفح الآن