على الرَّغمِ من ذلكَ، فإنَّ ثراءَ السودانِ بالمواردِ كانَ لعنةً جرّاءَ سوءِ الإدارةِ للحكوماتِ المُتَعاقِبَةِ وآخرِها نظامُ الرئيسِ المخلوعِ عمر البشير الذي كانَ مُتَحالفًا مع الجبهةِ الإسلاميَّة.
فالسّودانُ بلدٌ شاسعُ المساحةِ ومتنوّعُ الإِثْنِيّاتِ وهو يمثّلُ نقطةَ تقاطعِ الثقافةِ العربيةِ بالأفريقيةِ ويجمعُ بَيْنَ البيئةِ النَّهْرِيَّةِ النّيلِيَّةِ مع سُهوبٍ ومراعي أفريقيا جنوبَ الصحراءِ ويُلامِسُ تخومَ الغاباتِ الاستوائيةِ وصولًا إلى الجبالِ الشرقيَّةِ التي تُعَدُّ امتدادًا جُغرافيًّا وبشريًّا لمرتفعاتِ إثيوبيا وإريتريا.
تفاقمت صراعات القبائل العربية والأفريقية نتيجة الصّراع على الموارد وساعد على تفاقُم الوضع تدَفُّق السلاح من دول الجوار
ولا يَعْنِي ذلكَ تنوّعًا جغرافيًا هائلًا فقط، بلْ تنوّعًا إثنيًّا فريدًا لا يكادُ يُضاهِيهِ سِوَى تنوّعِ الهند، ولكنَّ التنوّعَ السودانيّ قد يكونُ أكثرَ تَداخُلًا بينَ مُكَوِّناتِهِ من الهندِ، إذْ تتكوّنُ البلادُ من قبائلَ عربيةٍ مُستقرّةٍ في الوسطِ وأُخْرَى رَعَوِيَّةٍ وشبهِ رعويةٍ في الغربِ والشرقِ، تعيشُ بجوارِ عناصرَ حامِيَّةٍ في الشرقِ وأفريقيَّةٍ في الشمالِ وفي الغربِ في دارفور.
وهذا التنوّعُ بِقَدْرِ ما عَرَفَ تَعايُشًا فريدًا على مدارِ القرونِ الماضيةِ، فَإِنَّهُ سَمَحَ بصعودِ التوتّرِ الإثنيّ إِثْرَ الإخفاقِ الحكوميّ والتغيّراتِ المُناخيّةِ ونموِّ السكانِ وانتشارِ السلاحِ والأَدْلَجَةِ السياسيّةِ المُغْرِقَةِ بالتنظيرِ نتيجةَ تغييبِها عنِ الواقعِ طوالَ سنواتِ الحُكْمِ السّابِق.
وأبرزُ مظاهرِ هذَا التوتّرِ كانَ في صراعاتِ القبائلِ العربيةِ التي تعملُ أغلبُها بالرَّعْيِ مع القبائلِ الأفريقيةِ التي تَنْزَعُ أغلبُها للزراعةِ في إقليمِ دارْفور، وهيَ الصراعاتُ التي تَفاقَمَتْ نتيجةَ الصّراعِ على المواردِ في ظلِّ التخلّيّ عنِ التقاليدِ التاريخيةِ المُنَظِّمَةِ للمصالحِ الاقتصاديةِ للطرفَيْنِ وتَوَسُّعِ الزراعةِ والرَّعْيِ وغيابِ الحَوْكَمَةِ الحديثَة.
ساعدَ على تفاقُمِ الوضعِ تَدَفّقُ السلاحِ من دولِ الجوارِ منذ الثمانينيّاتِ إثرَ تأسيسِ الرئيسِ الليبيّ الرّاحلِ معمّر القذافي لِما يُعْرَفُ بالفَيْلَقِ الإسلاميّ في المنطقةِ لدعمِ حَرْبِهِ ضدّ تشاد والذي تَفَرَّعَ منهُ كِيانٌ يسمّى التجمّعَ العربيّ في دارفور حيثُ عَمَدَ القذافي إلى إثارةِ نَعْرَةِ قبائلِ الطوارقِ والعربِ في المنطقةِ ضدّ الحكوماتِ التي تسيطرُ عليها الإِثْنِيّاتُ الأفريقيةُ الزراعيةُ واستغلالِ شعورِ العربِ والطوارقِ بالظلمِ والتهميشِ وهو الأمرُ الذي يستغلُّهُ حاليًّا تَنْظيمَا "القاعِدَةِ" و"داعِشَ" في غربِ أفريقيا.
فأزماتُ السودانِ، وبخاصة دارفور، لَها علاقةٌ وثيقةٌ بأزمةِ الهويةِ والاقتصادِ في منطقةِ الساحلِ الأفريقيّ.
ولكنْ في السودانِ، زادَتْ ثَرْواتُ البلادِ من حِدَّةِ الأزماتِ، إضافةً للإخفاقِ السياسِيّ.
ضعف سيطرة الحكومة على الموارد والحدود أدى إلى امتلاك أطراف ما دون الدولة الموارد للتسلّح
فَقَدْ اعتبرَ الكثيرُ من سكانِ الأطرافِ خاصةً من أبناءِ القبائلِ غيرِ العربيةِ أنَّ أزماتِ البلادِ الاقتصاديةِ والسياسيةِ سَبَبُها هَيْمَنَةُ النُّخَبِ العربيةِ المُتَحَدِّرَةِ من وسطِ البلادِ على المقاليدِ السياسيةِ والاقتصاديةِ من ناحيةٍ، ومن ناحيةٍ أُخْرى أَدَّى ضَعْفُ التحديثِ وضعفُ سيطرةِ الحكومةِ على المواردِ وعلى الحدودِ وسوءُ حالةِ المواصلاتِ والطرقِ إلى امتلاكِ أطرافٍ ما دونَ الدولةِ خاصةً من قبائلِ الأطرافِ غيرِ العربيةِ ولا سِيَّما في دارفور (وبصورةٍ أقلَّ في الشرقِ وجنوبِ كُرْدُفان) المواردَ للتسلّحِ مدفوعةً بشعورِ المَظْلومِيَّةِ المُسْتَنِدِ إلى عواملَ إثنيَّة.
وساعَدَ على إشعالِ هذا التمرّدِ حسن التّرابي مؤسّسُ "الجبهةِ الإسلاميّةِ" بعد خلافِه مع البشير، وكذلكَ "الجبهةُ الشعبيةُ لتحريرِ السودانِ" التي انْفَصَلَتْ في الجنوبِ، ولكنْ لَدَيْها إِيدْيولوجْيا مُعَيَّنَة في شمالِ السودانِ تقومُ على الوقيعةِ بين عربِ وأفارقةِ البلادِ على الرَّغمِ من أنَّ كِلَيْهِما مُسلمان.
وتوسّعتِ الأزمةُ جرّاءَ إضعافِ حُكْمِ "الجبهة الإسلامية" للأحزابِ التقليديةِ، على عُيوبِها، بخاصة "حزبَ الأمّةِ" والذي كانَ لهُ نفوذٌ قويّ في غربِ السودانِ وَفَّرَ عادةً مساحةً من التَّعايُشِ بين القبائلِ العربيةِ والأفريقيَّة.
(خاص "عروبة 22")

