لا توجد دول في الشرق الأوسط، لكن توجد فقط قبائل وطوائف. هكذا تحدث توم باراك، سفير أمريكا فى تركيا، ومبعوث الرئيس الأمريكي لسوريا. السيد باراك ليس مفكرا ينتج نظريات التاريخ وعلم اجتماع الدول والمجتمعات. إنه رجل أعمال وسياسي محترف يريد الوصول إلى نتائج محددة، يبحث لها عن تبرير نظري يناسبها. ينصحنا السيد باراك بالتوقف عن التعامل مع الكيانات السياسية الموجوة في الشرق الأوسط على أنها أمم ودول، لها ما للأمم والدول من حقوق.
يرى السيد باراك أن الأكثر ملاءمة هو الاستعانة بمقولات منبثقة من عالم ما قبل الأمة والدولة، أي العالم الذى لا توجد فيه مبادئ حق تقرير المصير والسيادة الوطنية، فالأمم والدول لم تولد بعد في الشرق الأوسط، وكل ما هناك هو قبائل وطوائف لها مصالح مادية اقتصادية، وليس لها مطالب وطنية سياسية أصيلة. المغالطة في كلام السيد باراك تأتي من ذلك التعميم الجريء الذي يلقيه في وجوهنا حول طبيعة دول المنطقة. الشك في أصالة دول الشرق الأوسط هو اعتقاد شائع لاينفرد به السيد باراك، فكثير من أبناء دول المنطقة أنفسهم، وتحت ضغط الدعاية والثقافة الغربية، يشكون في أصالة الدولة في منطقتنا.
مصدر هذا الخطأ هو تعميم خبرة المشرق العربي وسايكس بيكو على باقي منطقتنا. نعم هناك مشكلات خلقية وجينية خطيرة في تكوين الدولة المشرقية. لكن ماتعانيه الدولة في هذا الإقليم المحدد لا يجوز تعميمه على مجمل المنطقة. في الشرق الأوسط، بعيدا عن إقليم المشرق العربي، خبرات أصيلة في تكون الدولة، وهي خبرات مختلفة عن خبرة تكون الدولة الأوروبية. من الخطأ الاعتقاد بوجود نموذج واحد لتكون الدولة، هو النموذج الأوروبي، نموذج دولة وستفاليا. كان الأوروبيون قبل وستفاليا منقسمين إلى طوائف من المؤمنين الكاثوليك والبروتستانت، الذين تقاتلوا لعقود طويلة فى حروب دينية طاحنة، انتهت بالتوصل إلى سلسلة معاهدات للصلح تم توقيعها في وستفاليا الألمانية.
الدولة الحديثة وفقا لهذا النموذج هي الدولة التي ولدت من رحم الحروب الطائفية، والتي أحلت الأمة محل الطائفة والقبيلة. لقد تطور نموذج وستفاليا ليصبح نموذج دولة الأمة الليبرالية، وفيها تم تذويب الانتماءات الاولية المختلفة في انتماء وطني جامع، تجرى إدارته وفقا لمبادئ الديمقراطية الليبرالية. الدولة الغربية الحديثة ليست فقط نتيجة لمبادئ وستفاليا، لكنها أيضا، وبنفس القدر، محصلة للرأسمالية والتصنيع والتوسع الاستعماري والصراع الطبقي والنضال الديمقراطي، وكثير من هذا يعد تاريخا خاصا بأوروبا لا يجوز تعميمه للبشرية قاطبة. قبل وستفاليا كانت هناك دول عظيمة في مناطق مختلفة من العالم. مصر والصين هما أقدم الدول في العالم، ولكل منهما خبرته الخاصة في تكوين الدولة. لدينا في الشرق الأوسط نماذج لدول أصيلة، لم يتدخل سايكس أو بيكو في صياغتها، إنما تكونت نتيجة لوجود طلب داخلي مستدام ودعم داخلي كاف لتكوين جهاز للحكم والإدارة في إقليم محدد.
ينطبق هذا على الدول العربية في شمال إفريقيا، عدا ليبيا. نجده أيضا في اليمن وعمان وشبه الجزيرة العربية، في خبرات يرجع وجودها إلى ما قبل وصول الأوروبيين إلى المنطقة. جذور الدولة المعاصرة في أغلب بلاد شمال إفريقيا، نجده في نموذج دولة المعسكر، حيث تم حكم البلد في حدوده الحالية لقرون عدة متصلة من جانب نخبة منظمة، متمركزة في حصن، تمارس منه سلطتها على البلاد والعباد. تباينت الأصول العرقية للنخب الحاكمة في هذه البلاد، حتى استقر الأمر في النهاية لنخب عسكرية وطنية من أهل البلاد. النسيج الوطني والهوية الوطنية والتراث الثقافي المشترك في بعض بلاد شمال إفريقيا أقدم كثيرا من بعضها الآخر، وهو ما يميز الحالة المصرية بالذات، وإن اشتركت بلاد شمال إفريقيا في خصائص دولة المعسكر.
للمغرب الأقصى بين دول شمال أفريقيا خبرة فريدة خاصة، فمنذ قرون عدة والمغرب محكوم بنموذج دولة الإمامة، وفيها تتمركز السلطة في يد نخبة تتمتع بمصادر للشرعية الدينية، تخول لها مطالبة المؤمنين بالطاعة التزاما بحق الإمام؛ وحتى اليوم فإن ملك المغرب هو أيضا أمير المؤمنين الذى يحظى بالتبجيل. فى سلطنة عمان، في الركن الجنوبي الشرقي من شبه الجزيرة العربية، هناك دولة إمامة أخرى، تتم ممارسة السلطة فيها وفقا لشرعية دينية عريقة، دون شبهات قبلية أو عرقية.
المملكة السعودية هي نموذج لدولة أصيلة أخرى. لقد استغرقت عملية تكوين الدولة السعودية ثلاثة قرون، قامت فيها الدولة السعودية من جديد ثلاث مرات بعد كل مرة تعرضت فيها للانهيار، بما يؤكد أصالة الطلب والمساندة الاجتماعية المحلية التي تستند إليها. الدولة السعودية هي الأقرب لنموذج الدولة الخلدونية، تلك الدولة التي تحدث عنها العلامة عبدالرحمن بن خلدون، والتي تقوم على تضافر العصبية القبلية والدعوة الدينية. في منطقة الخليج قامت دول عصبيات قبلية، وظفت الدعم الغربي وثروة النفط لتعزيز كياناتها، فيما تكونت دولة الإمارات من اتحاد طوعي، ذي طابع فيدرالى، بين سبع من هذه الإمارات.
للشرق الأوسط تاريخ مختلف، وللدول فيه تاريخ خاص متفرد وأصيل، يعزز مطالبها الوطنية، وليس لأحد الزعم بأن تاريخنا الخاص يبرر حرماننا من حقوق وكرامة مستحقة لكل الدول والشعوب.
(الأهرام المصرية)

