تقدير موقف

أميركا 2025: الدَّوْلَةُ تَتَقَدَّمُ على الدّيموقْراطِيَّة!

مُنْذُ عودةِ دونالد ترامب إلى البيتِ الأبيضِ عامَ 2025، تَبْدو الولاياتُ المُتّحدةُ وَكَأَنَّها تعيشُ اختبارًا قاسيًا بين قوةِ السلطةِ التنفيذيةِ وَديموقْراطِيَّتِها الليبيراليَّة. تَتَجلَّى المُؤَشِراتُ في ثلاثِ دوائرَ مُتَداخِلَةٍ: تَسْييسُ الإدارةِ الفيدْرالِيَّةِ، تقويضُ حواجزِ الضَّبْطِ والتوازنِ، وَتَآكُلُ بعضِ الحقوقِ والحُرِيّات. لكنَّ الانْتِخاباتِ المَحَلِّيَّةِ الأَخيرةِ أَظْهَرَتْ أنَّ هَذا التآكلَ لم يَمُرَّ بِلا رَدِّ فِعْلٍ شعبيّ، وأنَّ المِزاجَ الأميركيّ يتحرّكُ خارجَ المدارِ الجمهوريّ - التْرامْبي في تَحَوُّلٍ يحملُ دلالاتٍ سياسيةً عميقةً، علمًا أنَّ الحزبَ الجمهوريَّ تاريخيًّا كانَ ضدَّ تدخّلِ الدولةِ، لكنَّ ترامب جاءَ لِيَعْكِسَ هَذا الاتجاهَ من خلالِ تعزيزِ سلطةِ الدولةِ التنفيذيّةِ وَتَسْييسِها، من دونِ أنْ يَتَخَلَّى عَنِ الخطابِ الجمهوريّ التقليديّ فيما يَخُصُّ الضرائبَ والسّوق.

أميركا 2025: الدَّوْلَةُ تَتَقَدَّمُ على الدّيموقْراطِيَّة!

الدّيموقْراطِيّونَ حَقَّقوا فوزًا واضِحًا في خمسِ ولاياتٍ، وَصَعِدَتْ شخصياتٌ تَقَدُّمِيَّةٌ شابَّةٌ مِثْلَ زُهْران مَمَداني إلى الواجهةِ، في إشارةٍ إلى تَنامِي قاعدةٍ انتخابيةٍ مُتَعَدِّدَةِ الأعراقِ وأكثرَ حساسيّةً لِقَضايا الحرّياتِ المدنيّةِ وسياساتِ الشرطةِ والهِجْرَة. ومعَ مَكاسِبِهِم في ولاياتٍ أساسيةٍ مِثْلَ ميشيغان وفِرْجينْيا ونيو جيرسِي، والتَّقَدُّمِ اللّافِتِ في ولاياتٍ مُتَأَرْجِحَةٍ تقليديًّا كَبِنسيلفانيا وويسْكونْسِنْ وأَريزونا وجورْجْيا ونيفادا، تَظْهَرُ طبقةٌ أعمقُ من الدلالاتِ السِياسِيَّة. فميشيغان المتأرجحةُ تارِيخيًّا بينَ الحِزْبَيْنِ، عادَتْ لِتَمْنَحَ الدّيموقراطِيّينَ زَخْمًا واضِحًا في ضَواحِي الطبقةِ العامِلَة. أمّا فِرجينْيَا، التي تَحَوَّلَتْ تَدْريجِيًّا من ولايةِ جمهوريةٍ إلى ديموقْراطِيَّةٍ مائِلَةٍ، فقد أَكَّدَتْ عَبْرَ صناديقِ الاقتراعِ رَفْضًا لِقَضايا اليَمينِ الثقافيّ وسياساتِ الأَمْنِ المُتَشَدِّدَة. وفي نيو جيرسي، حَيْثُ تمتزجُ الضَواحِي الثريّةُ والمَناطِقُ المُتَوَسِّطَةُ الدخلِ، أَظْهَرَتِ النَّتائِجُ تَراجُعًا في جاذبيّةِ خطابِ الجُمْهورِيّينَ لَدَى الطبقاتِ الوُسْطى. وعلى الخَريطَةِ الأَوْسَعِ، جاءَ التقدمُ في بنسيلفانيا وويسكونسن، وَهُما من أَهَمِّ الولاياتِ الحاسِمَةِ، ليُشيرَ إلى تَحَوُّلٍ تَدْريجِيّ في مزاجِ المُسْتَقِلّينَ والضَّواحِي.

هَذَا المَشْهَدُ بِمُجْمَلِهِ يكشفُ أنَّ السلوكَ الانتخابيّ لَيْسَ حَدَثًا مَحَلِّيًّا عابِرًا، بَلْ يُعَبِّرُ عَنْ رَفْضٍ عَميقٍ لخطابِ "الدَّوْلَةِ المَرْكَزِيَّةِ" أوْ "الدولةِ القويةِ" الذي تفرضُهُ إدارةُ ترامب، وعنْ مَيْلٍ مُتَزايِدٍ نَحْوَ بَديلٍ مُؤَسَّسيّ أكثرَ تَوازُنًا تُقَدِّمُهُ القُوَى الدّيموقْراطِيَّة.

السلوك الانتخابي بات يعكس رفضًا مُتزايدًا لمنطق السلطة المركزية الذي يحكُم الإدارة الحالية

بِالنِّسْبَةِ للانتخاباتِ النِّصْفِيَّةِ المُقبلةِ، تُشَكِّلُ هذهِ النتائجُ إنذارًا مُبَكِّرًا للجُمُهورِيّين. فَالتَّشَدُّدُ في خطابِ ترامب يَشُدُّ قاعِدَتَهُ الشَّعْبِيَّةَ، لَكِنَّهُ يَدْفَعُ ناخِبي الوسطِ نحوَ الدّيموقراطِيّين. بَيْنَما التَّراجُعُ عَنْ هَذَا الخِطابِ يُهَدِّدُ بِانْقِسامٍ داخِلِيٍّ بَيْنَ الشَّعْبَوِيّينَ والتَّقْلِيدِيّين. وَهَكَذا، يَجِدُ الجمهوريّونَ أَنْفُسَهُمْ أَمامَ مُعادَلَةٍ مُعَقَّدَةٍ: التَّشَدُّدُ يَخْسَرُ المُدُنَ، والاعتدالُ يَخْسَرُ القاعِدَة. في هَذا السّياقِ، لا تَبْدو الانتخاباتُ المحلّيةُ مُجَرَّدَ مَعْرَكَةٍ بَلَدِيَّةٍ، بَلْ مُؤَشِّرًا سياسيًا يُضيءُ على الخَريطِةِ الكُبْرَى: أَميركا ما بعدَ 2025 لَمْ تَعُدْ كَما كانَتْ، لأنَّ السلوكَ الانتخابيّ باتَ يَعْكِسُ رفضًا مُتزايدًا لمنطقِ السلطةِ المركزيَّةِ الذي يَحْكُمُ الإِدارَةَ الحاليَّة.

في المُقابِلِ، يمتلكُ الدّيموقْراطِيّونَ فرصةً نادرةً للبناءِ على هذا التحوّلِ عَبْرَ صِياغَةِ سَرْدِيَّةٍ وطنيةٍ تُركَِّزُ على أولوياتِ النّاخِبينَ: التعليمِ، السَّكَنِ، الرِّعايَةِ الصِحِّيَّةِ، وسياساتِ الأَمْن. هَذا التركيزُ يَسْمَحُ لَهُمْ باستعادةِ جُزْءٍ مِنَ المُسْتَقِلّينَ مِنْ دونِ خسارةِ القاعِدَةِ التَّقَدُّمِيَّةِ، خُصوصًا في الضَّواحي التي تميلُ تَدْريجِيًّا نَحْوَهُم. كَما يمكنُ للديموقراطيينَ استثمارُ التَّناقُضِ بَيْنَ سِياساتِهِمُ المَحَلِّيَّةِ الأكثرَ انفتاحًا وبينَ نموذجِ "الدولةِ القويةِ" الذي تُرَسِّخُهُ إِدارَةِ ترامب، لتقديمِ أَنْفُسِهمِ كبديلٍ مؤسّسيٍّ قادِرٍ عَلى حِمايَةِ التوازناتِ الدُسْتورِيَّةِ وَمَنْعِ تغوّلِ السلطةِ التنفيذيَّةِ، ليُحَوِّلوا المَكاسِبَ البَلَدِيَّةَ إلى زَخْمٍ حقيقيٍّ في الانتخاباتِ النّصْفِيَّةِ المُقْبِلَة.

هَذا المَدُّ الشعبيُّ المُناهِضُ لاتجاهاتِ الإدارةِ يَتَقاطَعُ مع ما يَجْري على مُسْتَوَى المُؤسَّساتِ الفيدْرالِيَّةِ، حَيْثُ تُواصِلُ الإدارةُ ترسيخَ نموذجِ "الدولةِ القَوِيَّةِ" على حسابِ روحِ المُؤسَّسات. فَإِحْياءُ خُطَّةِ "جَدْوَلِ إِفْ"، التي تَسْمَحُ بإعادةِ تصنيفِ آلافِ المُوَظَّفينَ الفيدْرالِيّينَ واسْتِبْدالِهِمْ بِمُوالينَ سياسِيّينَ، يَضْرِبُ أَحَدَ أَرْكانِ النظامِ الأَميركِيّ: حِيادُ الخِدْمَةِ المَدَنِيَّة. فالموظفُ الذي كانَ أَداةً لتنفيذِ سياسةٍ عامَّةٍ أصبحَ اليومَ جُزْءًا من الولاءِ السياسيّ للرئيسِ، ما أَضْعَفَ مُؤسّساتِ الرَّقابَةِ والمُساءَلَةِ وأَدْخَلَ الدولةَ في مَنْطِقِ "الولاءاتِ لا الكَفاءَات".

تبدو أميركا مُنقسمة بين شرعيّتين: شرعيّة انتخابيّة يدّعيها ترامب وشرعيّة اجتماعيّة تتشكّل من الأسفل

إِلَى هَذا، تَوَسَّعَتْ صَلاحِيّاتُ السلطةِ التنفيذيةِ على حِسابِ الكونْغْرِسِ والهَيْئاتِ المُسْتَقِلَّةِ، في نَزْعَةٍ واضِحَةٍ نَحْوَ تركيزِ القرارِ داخلَ البيتِ الأبيضِ وإِضْعافِ مَنْظومَةِ الضوابط والتوازنات. وَتَرافَقَ هذا التوجّهُ مع عسكرةٍ غير مسبوقةٍ للأمن الداخلي، إِذْ نُشِرَتْ وَحَداتٌ مِنَ الحَرَسِ الوَطَنيّ في العاصِمَةِ واشنطن وَمُدُنٍ كُبْرَى بِدَعْوَى مُكافَحَةِ الجريمةِ وضبطِ الشغبِ، في خطوةٍ أثارَتْ مَخاوِفَ واسِعَةً مِنْ تَآكُلِ الفَصْلِ التقليديِّ بَيْنَ المَجالَيْنِ المَدَنِيّ والعَسْكَرِيّ.

وفي مَلَفِّ الهِجْرَةِ والتَّجْنيسِ، شَدَّدَتِ الإدارةُ إجراءاتِ مَنْحِ الجِنْسِيَّةِ وَسَحْبِها، مُحَوِّلَةً المُواطَنَةَ مِنْ حَقٍّ قانونيٍّ إلى امْتِيازٍ سياسيٍّ مَشْروطٍ، ما عَمَّقَ شَعورَ المُهاجِرينَ بالاستهدافِ وزادَ مِنْ مُشارَكَتِهِِم الانتخابيةِ لِصالِحِ الدّيموقْراطِيّين.

وَراءَ كُلِّ هَذِهِ المَظاهِرِ يَكْمُنُ مَشْروعٌ أَوْسَعُ يُعيدُ هَنْدَسَةَ النظامِ الأميركيّ مِنَ الدّاخِلِ: إِدارَةٌ بيروقْراطِيَّةٌ مُسَيَّسَةٌ، أَمْنٌ داخِليّ مُعَسْكَرٌ، ومُواطَنَةٌ مُراقَبَة. وَبِذَلكَ تَتَحَوَّلُ الدّيموقْراطِيَّةُ إلى أداةِ تَبْريرٍ للسلطةِ، لا منظومةِ حِمايَةٍ لَها. صحيحٌ أنَّ الولاياتِ المتحدةَ ما زالَتْ تُجْرِي انتخاباتٍ حُرَّةً وَتَحْتَفِظُ بِصَحافَةٍ نَشِطَةٍ وقضاءٍ متنوّعٍ، لَكِنَّها تُخاطِرُ اليومَ بإفراغِ هذه الآلياتِ من مضمونِها إذا استمرَّ تَحَوُّلُ الدولةِ إلى مَرْكَزٍ سُلْطَوِيٍّ يَضْبِطُ ما حَوْلَه.

قد يجد الأميركيون أنفسهم أمام دولة أقلّ ديموقراطية تتقدّم فيها السلطة المركزيّة على حساب الأطراف

الخطرُ الحقيقيُّ لا يكمنُ في انقلابٍ صريحٍ على الدّيموقْراطيةِ، بلْ في تطبيعِ التراجعِ التَّدْريجِيّ. وَمَعَ بروزِ مُقاوَمَةٍ انتخابيةٍ محلّيةٍ لِنَزْعَةِ الدولةِ القويّةِ، تَبْدو البلادُ مُنْقَسِمَةً بَيْنَ شرعيّتَيْن: شرعيةٍ انتخابيةٍ يَدَّعيها ترامب، وشرعيةٍ اجتماعيةٍ تتشكّلُ مِنَ الأَسْفَل.

لا يَنْعَزِلُ هَذا التَّحَوُّلُ الداخليّ في الولاياتِ المتحدةِ عن الشرقِ الأَوْسَط. فالتقدّمُ الذي حَقَّقَهُ الديموقراطيونَ يَضَعُ حُدودًا لاندفاعةِ إدارةِ ترامب في مِلفّاتٍ حَسّاسَةٍ كالعلاقةِ مع إيران وإسرائيل وغزّة، وَيَجْعَلُ السياسةَ الخارجيّةَ الأميركيّةَ أكثرَ تَرَدُّدًا وأقلَّ قُدْرَةً على فرضِ خياراتٍ أُحاديَّة. ومع بروزِ مَوازينِ قُوَى أميركيةٍ مُتَحَرِّكَةٍ، تَجِدُ دولُ المنطقةِ نفسَها أمامَ واشِنْطُنْ غيرِ مُستقرّةٍ سياسيًّا، ما يدفعُها إلى إعادةِ حِساباتِها رَيْثَما تتّضحُ مَلامِحُ الاتجاهِ الأميركيِّ في المرحلةِ المُقْبِلَة.

إِذَا عَجِزَ الدّيموقْراطِيّونَ عن تحويلِ المزاجِ الشعبيّ الأخيرِ إلى مَسارٍ فِعْلِيّ، فقد يَجِدُ الأميركِيونَ أَنْفُسَهُمْ أمامَ دولةٍ أقوَى وأقلَّ ديموقراطيةً، تتقدّم فيها السُّلطةُ المَرْكَزِيَّةُ على حسابِ الأطرافِ، فيما تَتَعَرَّضُ اللّيبيرالِيّةُ الأميركيَّةُ لِتَآكُلٍ هادِئٍ تُدْرِكُهُ صناديقُ الاقتراعِ قَبْلَ أنْ تَعْتَرِفَ بِهِ مُؤسَّساتُ الحُكْم.

(خاص "عروبة 22")
?

برأيك، ما هو العامل الأكثر تأثيرًا في تردي الواقع العربي؟





الإجابة على السؤال

يتم التصفح الآن