كانت وسائل الإعلام العبرية قد بدأت في اتهام مروان بالعمل مع "الموساد" مطلع الألفية الجديدة، وذلك بعد تسرّب أوراق تحقيق أجرته لجنة شكّلتها رئيسة الوزراء جولدا مائير بعد الحرب برئاسة القاضي شمعون أجرانات للوقوف على أسباب الهزيمة وتحديد المسؤول عنها.
أُصيب هيكل بصدمة، بعدما وصل إليه الخبر من الصحف العبرية بأنّ زوج ابنة صديقه الرئيس الراحل جمال عبد الناصر كان عميلًا لإسرائيل، فطلب من بعض أصدقائه - منهم الدكتور عزمي بشارة النائب العربي في الكنيست في ذلك الوقت - مساعدته في الحصول على أوراق القضية التي تمّت مناقشتها بلجنة الأمن والدفاع في "الكنيست".
وصلت الأوراق إلى مكتب هيكل "لم أكن بأمانة مستعدًا لتصديق ما قرأت.. لكني - وبأمانة أيضًا - لم أكن قادرًا على تجاهله!!، فالقضية لم تعد تلميحات أو تسريبات تظهر فى صحف.. إنما القضية أكبر، وإلحاح الوقائع والتفاصيل فيها لا يمكن مقابلته بالصمت فى مصر!!"، يقول هيكل في كتابه "مبارك وزمانه.. من المنصّة إلى الميدان".
زوجته منى عبد الناصر اتهمت بشكل مباشر إسرائيل بتصفيته، لدوره في خداعها خلال الحرب
في الفندق اللندني الشهير سأل مروان هيكل: "هل تصدّق أنني جاسوس؟"، فردّ الأخير: "هذا سؤال فى غير محلّه، فالمسألة ليست تقييم شخصي، وإنما وقائع مذكورة في وثائق".
كشف هيكل لمرافقه بعض ما وصله من أوراق الكنيست، فمدّ مروان يده في جيبه وأخرج قصاصة من جريدة الأهرام تتضمّن إشادة السادات بـ"الخدمات التي قدّمها للوطن"، نظر هيكل للورقة وطواها وناولها إلى مروان الذي صاح مجددًا: "ألا تكفيك شهادة السادات؟.. هل تتصوّر أنّ صهر جمال عبد الناصر جاسوس؟"، ليردّ هيكل بشكل حاسم: "لا شهادة حُسن سير وسلوك من السادات، ولا صلة مصاهرة مع عبد الناصر تعطيان عصمة لأحد".
بعد هذا اللقاء بشهور تحديدًا في 27 يونيو/حزيران 2007، فارق مروان الحياة في نهاية مأساوية، إذ سقط من شرفة منزله في لندن، ولم تتوصّل أجهزة الأمن البريطانية إلى الجاني، وإن كانت زوجته منى عبد الناصر اتهمت بشكل مباشر إسرائيل بتصفيته، لدوره في خداعها خلال الحرب وتقديم معلومات مضلّلة للإسرائيليين.
عقب أيام من الجنازة التي شُيّعت من القاهرة بحضور رسمي من كبار رجال الدولة، وصف الرئيس الراحل مبارك مروان بأنه "كان مخلصًا، وقام بالعديد من الأعمال الوطنية التي لم يحن الوقت للكشف عنها".
لم توقف شهادة مبارك سيل الأخبار التي نشرها الإعلام العبري عن دور صهر عبد الناصر ومدير مكتب السادات في تقديم "أحسن خدمات لإسرائيل"، بل أنّ الأمر تعدّى ذلك، إذ صدر كتاب للكاتب أوري جوزي عن تفاصيل تواصل مروان بالموساد عنوانه: "الملاك: الجاسوس المصري الذي أنقذ إسرائيل"، والذي تحوّل لاحقًا إلى فيلم أنتجته منصة "نتفليكس".
لم ينظر أحد إلى دعوة هيكل بفتح تحقيق رسمي.. ولم يُفوّت الطرف الآخر مناسبة دون تذكيرنا بـ"جاسوس الموساد المصري"
وفي الوقت الذي يردّد فيه الإسرائيليون روايات عن جاسوسية مروان وتعاونه معهم، لم تُقدّم الأجهزة المصرية أجوبة واضحة على التساؤلات التي انفجرت، حتى من باب دعم شهادة مبارك للرجل بأنه "وطني مخلص".
أنهى هيكل الفصل الخاص عن مروان من كتابه "مبارك وزمانه"، بقوله: "كرامة البلد وسمعة أشرف مروان نفسه تتطلّبان تحقيقًا رسميًا مصريًا في الموضوع، بواسطة هيئة رفيعة المستوى، تضمّ عناصر قضائية، وبرلمانية، على أن تمثل فيها المخابرات العسكرية والعامة، وظنّي أنه من دون ذلك لا تستقيم الأمور".
بالطبع لم ينظر أحد إلى دعوة هيكل بفتح تحقيق رسمي لبيان الحقيقة، ولم تخرج ورقة واحدة لتوضيح الأمور وتبرئة الرجل أو إدانته، في المقابل لم يفوّت الطرف الآخر أيّ مناسبة دون تذكيرنا بقصة مراون "جاسوس الموساد المصري"، لتظلّ سردية العدو هي الأعلى صوتًا والأكثر انتشارًا وتأثيرًا.
مطلع سبتمبر/أيلول الجاري، نشر "الموساد" مجددًا مجموعة لوثائق تاريخية، تتعلّق بأنشطته إبان الحرب، تعرّضت لدور أشرف مروان "المصدر المصري الأبرز" الذي منح إسرائيل معلومات حول جيشَيّ مصر وسوريا.
وتضمّنت الوثائق حديثًا عن عميل آخر في الجيش المصري، أخطر إسرائيل بتحرّكات قواتنا خلال الحرب، وهي المعلومة "الذهبية" حسب الوصف الإسرائيلي والتي نتج عنها الثغرة.
متى تكشف مصر عن وثائقها؟! إن لم يكن احترامًا لحقّ المواطن في المعرفة فمن أجل التصدي لتسريبات تل أبيب
لا يمكن اعتماد الرواية الإسرائيلية كما هي، إذ تظلّ كغيرها من التسريبات تحوم حولها الشكوك، فإذا أخضعنا الأمور للمنطق فإسرائيل التي زعمت حصولها على معلومات عن تحرّكات الجيش وتسليحه وموعد الحرب، سواء من مروان أو غيره، تعرّضت لهزيمة نكراء، وإن كانت السياسة قد هزمت السلاح فيما بعد، وهذا موضوع آخر.
هنا يطرح السؤال نفسه مجددًا، فإذا كانت إسرائيل تكشف أو تُسرّب من حين لآخر وثائق عن الحرب وأسرارها فمتى تكشف مصر عن وثائقها؟! إن لم يكن احترامًا لحقّ المواطن في المعرفة، فمن أجل التصدي لتسريبات تل أبيب التي تصوّر أنّ أجهزتها الأمنية اخترقت أعلى مستويات الحكم في مصر قبل حرب أكتوبر. ومن أجل مواجهة آلة الحرب النفسية الإسرائيلية التي تستهدف زعزعة ثقة الأجيال الجديدة في الانتصار الوحيد الذي حقّقه العرب على العدو الغاصب.
من حقّ كرامة مصر وسمعة مؤسساتها حسم جدلية أشرف مروان - بريئًا كان أم مدانًا - بالوثائق، وأن يعلم الرأي العام المصري والعربي حقيقة ما جرى، فهذا حقّ الشعب وحقّ الشهداء الذين قضوا في تلك الحرب وحقّ الأجيال المقبلة التي يتمّ التشويش عليها سنويًا، دون أن يدرك أحد خطورة ما تفعله إسرائيل.
(خاص "عروبة 22")