تتواصل المعاناة الفلسطينية في الضفة الغربية بصورة ممنهجة تعكس تدهورًا خطيرًا في الأوضاع الإنسانية والأمنية والسياسية. فخلال السنوات الأخيرة، لم تعد الضفة الغربية مجرد ساحة لاحتكاكات متفرقة أو مواجهات موضعية، بل تحولت إلى مسرح عنف يومي يكاد يطال كل مدينة وبلدة وقرية فلسطينية، وبات الفلسطينيون يواجهون ضغوطًا مركبة تتمثل في توسع الاستيطان، وتغوّل منظومات السيطرة الإسرائيلية، وتراجع فرص أي انفراج سياسي، إلى جانب التهديد المتصاعد الذي يمثله عنف المستوطنين المنظم والمدعوم ضمنيًا من بعض دوائر صنع القرار داخل إسرائيل. ومن ثم، فإن البحث عن سبيل جاد وعملي لإنهاء هذه المعاناة يتطلب فهمًا دقيقًا لطبيعة العنف القائم، ولمنظومة السياسات التي أنتجته، وللشروط الضرورية لوقفه.
لقد تصاعد عنف المستوطنين في الضفة الغربية بصورة غير مسبوقة خلال العامين الأخيرين، سواء من حيث حجم العمليات الاعتدائية أو الجغرافيا الواسعة التي تغطيها. وتشمل الاعتداءات إطلاق النار، وإحراق المنازل والمزارع، وتدمير الممتلكات، ومنع المزارعين الفلسطينيين من الوصول إلى أراضيهم، وترويع السكان في مناطق متعددة. هذا العنف لا يُعد سلوكًا فرديًا أو عشوائيًا، بل يأتي نتيجة بيئة سياسية وأمنية تتسامح معه، بل وتستوعبه في بعض الأحيان ضمن رؤية أوسع لتوسيع الرقعة الاستيطانية، وإجبار الفلسطينيين على مغادرة مناطق مصنفة استراتيجية في المنظور الإسرائيلي. لذا فإن وقف عنف المستوطنين ليس مطلبًا إنسانيًا فحسب، بل شرط أساسي لحماية الحد الأدنى من فرص الاستقرار ومنع الانزلاق نحو فوضى دائمة.
تتجلى خطورة الوضع في أن المؤسسات الإسرائيلية، المدنية والعسكرية، لم تتخذ الخطوات الضرورية لوقف هذا العنف أو لمحاسبة مرتكبيه بصورة فعّالة. بل إن حالة الإفلات من العقاب باتت القاعدة العامة، ورسّخت شعورًا لدى المستوطنين بأنهم قادرون على فرض وقائع جديدة على الأرض دون مساءلة. ولم تقتصر المشكلة على ضعف الردع، بل شملت أيضًا مشاركة بعض العناصر المسلحة من الميليشيات الاستيطانية في عمليات مشتركة مع الجيش الإسرائيلي، وهي ظاهرة تكررت في مناطق متعددة. كل ذلك أسهم في تحويل المستوطنين إلى فاعل أمني مواز، يمتلك القدرة على التأثير المباشر على حياة الفلسطينيين وعلى شكل السيطرة الإسرائيلية في الضفة الغربية. وبالتالي فإن أي مسار لإنهاء المعاناة يجب أن يبدأ بتغيير هذا الواقع عبر فرض سيادة القانون داخل إسرائيل نفسها، وإجبار المستوطنين على احترام الحدود القانونية، واعتبار الاعتداءات عليهم جرائم يجب التحقيق فيها ومحاكمة مرتكبيها دون استثناء.
غير أن وقف عنف المستوطنين لا يمكن تحقيقه بمعزل عن معالجة البنية السياسية التي تسمح لهذا العنف بالتصاعد. فالحكومة الإسرائيلية الحالية تضم أطرافًا سياسية دعت علنًا إلى توسيع الاستيطان، وتشجيع الوجود اليهودي المسلح في المناطق الريفية الفلسطينية، واعتبرت أن الفلسطينيين في الضفة "خصم يجب إخضاعه" وليسوا شعبًا يعيش تحت الاحتلال. هذه الخلفية السياسية تُعيق أي مسار عقلاني لخفض العنف، وتدفع نحو مزيد من الخطوات الأحادية الجانب التي تقطع الطريق على أي تسوية مستقبلية. ومن ثم، فإن الضغط الدولي المنسق، سواء من الإدارات الغربية أو من الأمم المتحدة أو من الأطراف العربية ذات العلاقات السياسية والأمنية مع إسرائيل، بات ضرورة لا خيارًا. الغاية ليست فرض شروط تعجيزية على إسرائيل، بل إعادة ضبط سلوكها في الضفة بما يتماشى مع القانون الدولي وبما يمنع انزلاق الوضع نحو انفجار شامل قد يمتد لسنوات.
ومن المهم هنا التأكيد على أن المجتمع الدولي يمتلك أدوات سياسية وقانونية فعلية يمكنه توظيفها، وعلى رأسها ربط أي تعاون أمني أو اقتصادي مع إسرائيل بمدى التزامها بخفض العنف الاستيطاني، والتوقف عن مصادرة الأراضي، واحترام حقوق الفلسطينيين الأساسية. كما يمكن للدول العربية، بما فيها تلك التي ارتبطت بإسرائيل باتفاقيات تطبيع، أن تلعب دورًا مهمًا في الضغط الدبلوماسي المنظم، بحيث توضح أن استدامة العلاقات مع إسرائيل لا يمكن أن تستمر بينما يتعرض الشعب الفلسطيني في الضفة الغربية لعنف يومي يفقده الشعور بالأمان. وقد أثبتت التجربة أن الضغط العربي عندما يأتي بصوت موحد يمكن أن يحقق توازنًا في معادلة الصراع، ويعيد الاعتبار للبعد الإنساني والحقوقي الذي أهملته السياسات الدولية خلال الأعوام الماضية.
على الجانب الفلسطيني، فإن إنهاء المعاناة يتطلب أيضًا توحيد مؤسسات الحكم وإعادة تنشيط الجهد السياسي والدبلوماسي. فالوضع الداخلي الفلسطيني في الضفة الغربية تراجع من حيث قدرة السلطة الفلسطينية على بسط سيطرتها، ليس فقط بسبب تغول الاحتلال، بل أيضًا نتيجة لأزمات داخلية سياسية واقتصادية. ويمكن للسلطة، برغم القيود، أن تعيد بناء منظومتها، وأن تعزز من حضورها في القرى والمناطق الريفية الأكثر استهدافًا للعنف الاستيطاني، عبر مبادرات حماية مدنية ومتابعة قانونية وتوثيق للجرائم. كما أن تفعيل أدوات المقاومة الشعبية السلمية—مثل لجان الحماية المجتمعية، والتواجد الجماهيري في المناطق المهددة، والعمل القانوني الدولي—يمكن أن يشكل رافعة مؤثرة لكبح تغول المستوطنين. فالمطلوب ليس مواجهة عسكرية، بل إعادة بناء قدرة المجتمع الفلسطيني على الصمود وعلى فرض كلفة سياسية وإعلامية على إسرائيل كلما تصاعد العنف الاستيطاني.
إضافة إلى ذلك، فإن المنظمات الحقوقية الدولية والإسرائيلية المستقلة تلعب دورًا مهمًا في توثيق الانتهاكات وفي فضح الممارسات التي يتعرض لها الفلسطينيون. هذا الدور يحتاج إلى دعم سياسي وقانوني وإعلامي، ولا ينبغي السماح بتجريمه أو الحد من قدرته على العمل، لأن المعلومات التي يجمعها المحققون الحقوقيون تساهم في بناء ملفات قانونية أمام المحاكم الدولية، وتكشف للعالم حقيقة ما يجري. وعندما يتحول التوثيق إلى أداة ضغط، يصبح من الصعب على الحكومات تجاهل ما يحدث أو اختزاله في إطار مواجهة أمنية.
وفي المحصلة، فإن إنهاء المعاناة الفلسطينية في الضفة الغربية يمر عبر ثلاثة مسارات متكاملة: وقف فوري وحقيقي لعنف المستوطنين عبر إجراءات أمنية وقانونية ملزمة داخل إسرائيل، وضغط دولي منظم يعيد الاعتبار للقانون الدولي ويفرض كلفة سياسية على استمرار الاحتلال، وإعادة بناء القدرة الفلسطينية الذاتية على الصمود والمقاومة السلمية وترتيب البيت الداخلي بما يسمح بتوفير حماية فعلية للسكان. ومتى تلاقت هذه المسارات، يمكن فتح نافذة أمل سياسية تعيد الفلسطينيين والإسرائيليين والمسار الدولي إلى طاولة تبحث بجدية عن مستقبل يضمن الحقوق وينهي الاحتلال ويمنع ترسيخ واقع الفصل العنصري.
إن السبيل إلى إنهاء المعاناة ليس بسيطًا ولا سريعًا، لكنه يبدأ بخطوة واضحة: وقف عنف المستوطنين. فمن دون ذلك، ستظل كل محاولات التهدئة أو التفاوض أو إعادة بناء الثقة غير ذات جدوى، وسيظل الشعب الفلسطيني في الضفة الغربية يعيش تحت تهديد دائم. أما إذا اتخذ المجتمع الدولي وإسرائيل والقيادة الفلسطينية خطوات متزامنة وجادة، فإن الطريق نحو تغيير جذري يصبح ممكنًا، وتصبح الضفة الغربية مساحة للأمل بدلامن أن تبقى ساحة للعنف والانتهاكات اليومية.
(القدس العربي)

