صحافة

أوروبا والاستراتيجية الأمريكية

يونس السيد

المشاركة
أوروبا والاستراتيجية الأمريكية

يصعب تصوّر ما آل إليه وضع القارة الأوروبية في استراتيجية الأمن القومي الأمريكي بعد عقود من التحالف والشراكة السياسية والأمنية والاقتصادية بخلاف التاريخ والثقافة والقيم التي انتقلت أصلاً من القارة العجوز إلى الولايات المتحدة. لا يبدو أن الأمر يتعلق بشيخوخة القارة العجوز المثقلة فعلاً بالأزمات والعجز الاقتصادي، بقدر ما يتعلق بالاستراتيجية الأمنية للولايات المتحدة ورؤيتها للساحة العالمية في إطار خدمة مصالحها فقط وعلى قاعدة "أمريكا أولاً".

في إطار هذه الاستراتيجية ترى واشنطن أن أوروبا أصبحت حليفاً ضعيفاً لا يخدم مصالحها، وأنها صارت "اتكالية"، أي أنها تعتمد على الولايات المتحدة في حماية أمنها، ووجهت انتقادات لاذعة لسياسات القارة العجوز بشأن الهجرة وحرية التعبير وقمع المعارضة السياسية، محذرة من محو الحضارة الأوروبية في غضون 20 سنة أو اقل.

والحقيقة أن هذه الرؤية لأوروبا هي جزء من رؤية أوسع للاستراتيجية الأمريكية في الساحة الدولية، إذ إن أولوياتها الجديدة باتت تركز على أمريكا اللاتينية والبحر الكاريبي، وعلى آسيا وبحر الصين الجنوبي، من دون الصدام مع الصين إن أمكن، حيث الاقتصاد والمصالح المشتركة، لكن أيضاً من دون أن تتخلى عن تايوان، وهي معادلة فيها الكثير من النفاق السياسي، خصوصاً أن العالم والولايات المتحدة نفسها تعترف بصين واحدة. ومن جهة أخرى، لا ترى واشنطن أن الحرب الأوكرانية تخدم مصالحها، وبالتالي فهي تعمل على إنهائها، كما أنها لا ترى مصلحة لها في معاداة روسيا، بل يمكن بناء علاقات معها وفق المصالح المشركة، وذلك خلافاً للإدارات الأمريكية السابقة.

وإذا كانت أوروبا معنية باستمرار هذه الحرب التي قد تؤدي إلى صدام مع روسيا، في نهاية المطاف، فعليها ألا تتكل على الولايات المتحدة، وعليها أن ترفع بنسب كبيرة مستويات تمويلها لحلف "الناتو". وعلاوة على تراجع الشرق الأوسط في الاستراتيجية الأمريكية، باستثناء دعم إسرائيل، فإن الرؤية الأمريكية تستند باختصار إلى إخضاع العالم، سواء عن طريق القوة وتغيير أنظمة الحكم والتدخل في شؤون الدول الداخلية، أو من خلال الاقتصاد وفرض الرسوم الجمركية.

بهذا المعنى تمثل استراتيجية الأمن القومي الأمريكي انقلاباً على النظام الدولي وعلى الشرعية الدولية ومبدأ احترام سيادة الدول، وتستبدلها بسياسة استعمارية استبدادية. وفي الحالة الأوروبية يظهر التناقض بوضوح بين ضفتي الأطلسي، ما بين رؤية مستبدة تريد أن تفرض نفسها وتتحكم في النظام العالمي، وقارة، على الرغم من ضعفها الحالي، لا تزال تحترم القيم وحقوق الإنسان ولديها حضارة جذورها ضاربة في عمق التاريخ، يصعب محوها كما جاء في الرؤية الأمريكية الجديدة، إذ إن الولايات المتحدة نفسها هي وليدة هذه الحضارة التي يرغب الفكر الشعبوي في اضمحلالها وزوالها لصالح قوى اليمين الأوروبي المتطرف، ما يحتم على أوروبا التفكير ملياً في الاعتماد على قواها الذاتية.

(الخليج الإماراتية)
?

برأيك، ما هو العامل الأكثر تأثيرًا في تردي الواقع العربي؟





الإجابة على السؤال

يتم التصفح الآن