يمكن توصيف الوضع الحالي في الحروب الإسرائيلية المستمرة من جبهة غزة إلى جبهة جنوب لبنان مرورًا بالضفة الغربية التي تخضع لحرب من نوع آخر منخفضة الوتيرة، وبشكل متقطع من طرف المستوطنين، بالتعثر والضبابية فيما يتعلق بمحاولات وقفها وليس بالضرورة إنهائها. يبدو أن التعثر هو أفضل ما يمكن قوله لوصف البدء بالمرحلة الثانية من خطة ترامب لوضع حدّ للحرب على غزة. من أهم نقاط الخلاف تعريف المهام الموكلة لقوة الاستقرار الدولية الموقتة؛ هل ستكون لحفظ الاستقرار كما يفترض بعد انسحاب إسرائيل من القطاع أم كما تدعو إسرائيل لنزع سلاح حماس "وتنظيف" القطاع من السلاح وإقامة وضع أمني جديد بالشروط الإسرائيلية؟. أمر ترفضه الدول العربية والإسلامية المدعوة للمشاركة في هذه القوة.
دور هذه القوة كما تؤكد إليه الدول المشار إليها هو تولي الأمن والحفاظ على الاستقرار مع الانسحاب الكلي للجيش الإسرائيلي وليس أن تكون بمثابة "شرطة" لتنفيذ الشروط الإسرائيلية. إقامة خط أصفر إسرائيلي يقسم القطاع إلى منطقة شرقية يسيطر عليها الجيش الإسرائيلي ومنطقة غربية صار المطروح عمليا من طرف إسرائيل. الأمر الذي يعني خلق وتكريس واقع جديد قوامه تكريس احتلال إسرائيل لجزء من القطاع ودفع السكان للقدوم إليه من خلال الأعمال الحربية على أن تأتي المساعدات الإنسانية إلى هذه المنطقة المحتلة من طرف إسرائيل.
خلاصة الأمر انسحاب جزئي وإعادة تقسيم القطاع وتعزيز هذه الأوضاع من خلال قدوم المساعدات إلى هذه "المنطقة المستقرة" أي التى ستكون مستقرة فيما المنطقة غرب الخط الأصفر ستبقى في وضع حرب استنزاف مفتوحة. ويبدو أن كلام الرئيس الأمريكي عن الانتقال من النقطة 15 فى مبادرته لوقف الآخر في غزة إلى النقطة 17 يندرج عمليا في هذه المقاربة.. الأمر الذي يعني تنفيذ منفرد أو أحادي لخطة السلام، إذا ما رفضت "حماس" الشروط المطروحة أو عرقلت تنفيذها، وهي شروط تعجيزية، وبالتالي تأمين المساعدات للمناطق "الآمنة"، التي يفترض أن يسلمها الجيش الإسرائيلي إلى قوة الاستقرار الدولية. الأمر الذي يعني عمليا على أرض الواقع تقسيم غزة بين منطقة عدم استقرار ومنطقة "مستقرة" تحت سيطرة عسكرية إسرائيلية أي منطقة محتلة.
إن إسرائيل تود تكريس احتلال جزء من غزة لإحداث الترتيبات الأمنية التي تراها ضرورية بشروطها ولتكون منطقة عازلة مع غرب "الخط الأصفر" كما قسمت غزة على أرض الواقع وكما تعمل على تكريس هذا الوضع. وقد تصل السيطرة الإسرائيلية إلى حوالى 60 بالمائة من القطاع، وذلك ضمن إطار زمني مفتوح، مع تداعيات هذا الأمر على أي مسار سيطلق نحو حل الدولتين والذي يزداد صعوبة والبعض يرى استحالة في ظل السياسة الإسرائيلية الراهنة وعدم ردعها ووقفها. خلاصة الأمر تعمل إسرائيل على إحداث تغير ديمغرافي يطال جغرافية القطاع من أجل تعزيز سيطرتها المباشرة وغير المباشرة عليه.
في الضفة الغربية يزداد العنف "المدروس" كما يبدو من طرف المستوطنين للتغيير التدريجي الديمغرافي والجغرافي للوضع الفلسطيني في الضفة الغربية باتجاه تكريس وتعزيز السيطرة الكلية عليها للتأكيد على ضمها لكونها الهدف الاستراتيجي والعقائدي الأهم لمن هم في السلطة اليوم. ومن نافل القول التذكير بالتداعيات الخطيرة على دول الجوار، وبالأخص الأردن. خلاصة الأمر أن عملية الضم التدريجي تتسارع على الأرض مع تأجيل الإعلان عن الضم الرسمي الذي يبقى دون أهمية كونه يشكل خرقًا فاضحًا للقرارات الأممية ذات الصلة. ولكن يبقى الهدف لإسرائيل هو تعزيز خلق واقع جديد والفرض على "الآخرين" ــ أيا كانوا ــ التعامل معه لاحقا كحقيقة قائمة.
على صعيد لبنان ما زالت إسرائيل ترفض احترام إعلان وقف الأعمال العدائية الذي تم التوصل إليه، في 26 نوفمبر في العام الماضى، ودخل حيز التنفيذ في اليوم التالي، فيما نشطت إسرائيل في استمرار حربها تحت عنوان "الاستهداف الاستراتيجي" وكذلك مع احتلال نقاط خمس (تلال تعتبر استراتيجية في حربها المتوسعة أيضا في الجغرافيا) وما زال منطق خلق واقع جديد على الأرض قائما ومستمرا. وبلورت إسرائيل أخيرا نظرية استراتيجية جديدة تقوم على مفهوم "السيادة الأمنية" تعمل على تطبيقها من غزة إلى لبنان وسوريا إذ تؤكد على تصميمها على إقامة منطقة منزوعة السلاح من جنوب دمشق حتى جبل الشيخ .
خلاصة الأمر نشهد في نهاية هذا العام تكريس سياسة القوة الإسرائيلية لخلق واقع جديد على الأرض مع غياب دولي فاضح لوقف هذه السياسات. الأمر الذى سيؤدي إلى مزيد من التوتر مع انسداد أي آفاق فعلية وواقعية للتسوية الشرعية والواقعية، المعروفة عناصرها من كثرة تكرار التأكيد عليها دون توظيف الإمكانات الأكثر من الضرورية لفرض احترامها على إسرائيل. انسداد وتوترات يعززها هذا الانسداد على كل الجبهات. انسداد قابل للتوظيف في زيادة منسوب التوتر والصراعات المختلفة بمسبباتها ومضامينها في المنطقة ولو حملت الشعارات ذاتها.
(الشروق المصرية)

