غَيْرَ أَنَّ هَذِهِ المَظاهِرَ الذَّكِيَّةَ لَمْ تَكُنْ لِتَتَطَوَّرَ وَتَفْرِضَ سُلْطَتَها لَوْلا اعْتِمادِها على مَنْظومَةِ التَّواصُلِ المَعْلوماتِيِّ الشَّبَكيِّ (الإِنْتِرْنِت)؛ فَهِيَ التي تُتيحُ التَّدَفُّقَ الضَّخْمَ لِلْبَياناتِ بِصورَةٍ مُسْتَمِرَّةٍ، وَتَنْدَمِجُ فيها مُخْتَلَفُ صُوَرِ التَّفاعُلِ المُتَشابِكِ بَيْنَ الإِنْسانِ والْآلَة. كَما أَنَّها تَتَمَثَّلُ فيها الظَّواهِرُ المُجْتَمَعِيَّةُ الطَّبيعِيَّةُ في شَكْلِها الْإِلِكْترونيِّ الِافْتِراضِيّ. الْأَمْرُ الذي أَفْرَزَ فيها ما أَسْمَيْناهُ: "العَقْلَ الجَمْعِيَّ الإِلِكْتْرونِيَّ"، وَفَصَّلْنا فيهِ القَوْلَ في كِتاباتٍ سابِقَة. (الإِنْتِرْنِتُ والمَنْظومَةُ التِّكْنو-اجْتِماعِيَّةُ، 2005).
بِصَرْفِ النَّظَرِ عَنِ المَفْهومِ الدَّقيقِ لِهَذا العَقْلِ الجَمْعيِّ، كَمُنْتَجٍ كَوْكَبيٍّ (تِكْنو-اجْتِماعيٍّ)، يَتَشَكَّلُ مِنْ خِلالِ تَفاعُلِ الْأَفْرادِ والجَماعاتِ الرَّقْمِيَّةِ تَأْسيسًا على مُعْطَياتِ العَقْلِ البَشَريِّ الطَّبيعيِّ، وَبِغَضِّ النَّظَرِ أَيْضًا عَنْ خَصائِصِهِ الْأَساسِيَّةِ المُشابِهَةِ لِخَصائِصِهِ في صورَتِهِ الطَّبيعِيَّةِ، مِثْلِ فَرْضِهِ لِسُلْطَتِهِ المُجْتَمَعِيَّةِ في الجَبْرِ والإِلْزامِ، واتِّصافِهِ بِالعُمومِيَّةِ والتّاريخِيَّةِ والِاجْتِماعِيَّةِ والسَّبَبِيَّةِ؛ فَإٍنَّ لَهُ أَيْضًا خَصائِصَهُ الآلِيَّةَ التي بِدَوْرِها تَتَأَثَّرُ بِاسْتِخْداماتِ الذَّكاءِ الاصْطِناعيِّ بِصورَةٍ أَكْبَرَ مِنْ تَأَثُّرِ خَصائِصِهِ بِصورَتِهِ الطَّبِيعِيَّة.
تتجاوز تمثلات العقل الجمعيّ الإلكتروني الطبيعة الإِنسانيّة في التغيُّر الاجتماعي
ذَلِكَ أَنَّ الخَصائِصَ الْآلِيَّةَ، تُعْتَبَرُ مِنْ أَهَمِّ مُقَوِّماتِ طَبيعَةِ التَّفاعُلِ وأسْرَعِها في هَذا العَقْلِ الشّامِلِ، كَعَوامِلَ أَساسِيَّةٍ تَدْخُلُ في تَرْكيبَتِهِ الإِلِكْترونِيَّةِ وَتَنْتُجُ عَنْها في آن.. مِثْلَ العامِلِ الآليِّ بِطَبيعَتِهِ المادِّيَّةِ الصِّرْفَةِ؛ والعامِلِ الِافْتِراضيِّ كَسِمَةٍ عامَّةٍ لِلْفَضاءِ السّيبْرانيِّ الشَّبَكيِّ؛ وَخاصِّيَّةِ العالَمِيَّةِ التي تُجَسِّدُ انْفِتاحَ المُجْتَمَعاتِ البَشَرِيَّةِ بِشَتّى تَمَثُّلاتِها في هَذا العالَمِ العَوْلَميِّ (القَرِيَةِ الواحِدَة)؛ فَضْلًا عَنْ كَوْنِهِ أَكْثَرَ تَعْقيدًا، لِضَخامَةِ أَعْدادِ مُكَوِّناتِهِ وَعَلاقاتِها الاجْتِماعِيَّةِ مُقارَنَةً بِمُرَكَّباتِ العَقْلِ الجَمْعيِّ الطَّبيعِيّ. كَذَلِكَ، تَمَظْهُرُهُ بِصورَةٍ أَكْثَرِ حَرَكِيَّةً، وأَدَقَّ في تَعامُلاتِهِ الرَّقْمِيَّةِ المُتَنَوِّعَة.
بِذَلِكَ كُلِّهِ، تَتَجاوَزُ تَمَثُّلاتُ العَقْلِ الجَمْعيِّ الْإِلِكْترونيِّ الطَّبيعَةَ الإِنْسانِيَّةَ (الأَصْلَ) في التَّغَيُّرِ الِاجْتِماعيِّ، فَيَكونُ هَذا العَقْلُ الكَوْكَبِيُّ أَكْثَرَ تَغَيُّرًا (تِكْنو-اجْتِماعِيًّا)، وأَسْرَعَهُ وأكْثَرَهُ قَبولًا لِعَوامِلِ التَّخْطيطِ والتَّوْجيهِ غَيْرِ التِّلْقائيِّ، بِفِعْلِ السَّيْطَرَةِ التِّكْنولوجِيَّةِ والتَّحَكُّمِ في حَرَكَتِهِ المَعْلوماتِيَّةِ العالَمِيَّة. وَيَكونُ أَيْضًا أَكْثَرَ حِدَّةً، وإِلْزامًا، لِأَفْرادِهِ وَجَماعاتِهِ، وأَكْثَرَ عالَمِيَّةً، وَتاريخِيَّةً، وَعُمومِيَّةً؛ بِفِعْلِ قُوَّةِ العَوامِلِ التِّكْنولوجِيَّةِ المُتَفاعِلَةِ مِنْ خِلالِه.
وظيفة العقل الكوكبي الجديد الأكثر أهميّة هي إنتاج المبادئ وقواعد السلوك الذكية في المجتمع الافتراضي
هُنا، تَحْديدًا، يَأْتي التَّأْثيرُ الكَبيرُ على هَذا العَقْلِ جَرّاءَ اسْتِخْدامِ الأَدَواتِ الذَّكِيَّةِ المُتَفاعِلَةِ في شَبَكَةِ الشَّبَكاتِ (الإِنْتِرْنِت)، لِما تُوَفِّرُهُ مِنْ بُنْيَةٍ تَحْتِيَّةٍ قَوِيَّةٍ لِلْأَدَواتِ الذَّكِيَّةِ، فَتُؤَدّي هَذِهِ الأَدَواتُ دَوْرَها بِشَكْلٍ مُتَّصِلٍ بِاسْتِمْرار، وَتَغْدو الشَّبَكاتُ المَعْلوماتِيَّةُ المُتَداخِلَةُ بِمَثابَةِ قَنَواتِ الوَعْيِ لِهَذِهِ الأَدَواتِ الذَّكِيَّة، فَضْلًا عَنْ إِتاحَةِ كَمِّياتِها الهائِلَةِ مِنَ البَياناتِ المُسْتَمِرَّةِ والتَّفاعُلاتِ المُصاحِبَةِ؛ فَيَحْدُثُ التَّغَيُّرُ الآلِيُّ الذَّكِيُّ في المُجْتَمَعاتِ الِافْتِراضِيَّة، وَيَنْعَكِسُ ذَلِكَ مُباشَرَةً في تَجَلِّياتٍ مُتَعَدِّدَةٍ لِلْعَقْلِ الجَمْعيِّ الإِلِكْترونيِّ في نَموذَجِ الحَضارَةِ الذَّكِيَّةِ الجَديدَة... أَهَمُّها التَّجَلِّياتُ الآتِيَةُ:
1 - ظُهورُ خَصائِصَ آلِيَّةٍ لِلْعَقْلِ الكَوْكَبيِّ أَكْثَرَ ذَكاءً وارْتِقاءً، وأَكْبَرَ سَيْطَرَةً وَتَحَكُّمًا في مَساراتِ التَّفْكيرِ البَشَريِّ والْآليِّ مَعا.
2 - تَعْزيزُ هَذا العَقْلِ الكَوْكَبيِّ الجَديدِ لِوَظيفَتِهِ الأكْثَرِ أَهَمِّيَّةً في النَّموذَجِ الِاجْتِماعيِّ البَشَريِّ الآليِّ الجَديد؛ أَلا وَهِيَ إِنْتاجُ المَبادِئِ وَقَواعِدِ السُّلوكِ الذَّكِيَّةِ المُخْتَلِفَةِ في المُجْتَمَعِ الِافْتِراضيّ؛ مُتَمَثِّلَةً في النُّظُمِ الأَخْلاقِيَّةِ، والقانونِيَّةِ، والسِّياسِيَّةِ، وَغَيْرِها.
3 - تَأْسيسُ أَنْماطٍ ذَكِيَّةٍ عَديدَةٍ مِنَ الرَّغَباتِ العامَّةِ وَما أَشْبَهَ مِنْ مُيولٍ وأَذْواقٍ رَقْمِيَّةٍ ذَكِيَّة، وَشُعورٍ دينيٍّ عامّ، يُقارِبُ كَثيرًا بَيْنَ المُعْتَقَداتِ والتَّصَوُّراتِ والتَّخَيُّلاتِ النَّفْسِيَّةِ والرُّوحِيَّة. فَضْلًا عَما يَنْقُلُهُ مِنْ خُرافاتٍ وأَوْهامٍ مِنَ المُجْتَمَعاتِ الطَّبيعِيَّةِ التي تُرَقْمِنُ ثَقافاتِها المَحَلِّيَّةَ بِأَنْظِمَةٍ ذَكِيَّةٍ تَتَغَذَّى عَلَيْها، لِتَنْتَشِرَ في عُمومِ المُجْتَمَعِ الِافْتِراضيِّ الذَّكِيّ.
4 - انْعِكاسُ ظَواهِرِ العَقْلِ الجَمْعيِّ الجَديدِ في داخِلِيَّةِ كُلِّ فَرْدٍ مِنْ أَفْرادِ المُجْتَمَعِ الطَّبيعيِّ، بِقَدْرِ انْدِماجِهِ في اسْتِخْدامِ التِّقْنِيّاتِ الذَّكِيَّةِ الشَّبَكِيَّةِ، وَبِقَدْرِ تَمَسُّكِ الفَرْدِ بِهَذِهِ الظَّواهِرِ الإِلِكْترونِيَّةِ الذَّكِيَّةِ تَكونُ نَزْعَتُهُ الاجْتِماعِيَّةُ الْآلِيَّةُ الجَديدَة...
5 - تُصْبِحُ المَزايا الذَّكِيَّةُ التي تُضافُ إلى مِنَصّاتِ التَّواصُلِ الرَّقْمِيَّةِ بِأَنْواعِها، اجْتِماعِيَّةً، تِجارِيَّةً، إِدارِيَّةً، تَعْليمِيَّةً، إِعْلامِيَّةً، وَغَيْرِها، أَدَواتٍ لِتَعْزيزِ قُوى العَقْلِ الجَمْعيِّ الإِلِكْترونِيِّ، وَتَدْخُلُ بِدَوْرِها في إِضْفاءِ طابَعِها المُؤَثِّرِ بِشَكْلٍ أَوْ بِآخَرَ في الطَّبيعَةِ الِاجْتِماعِيَّةِ البَشَرِيَّةِ، فَضْلًا عَنِ الطَّبيعَةِ الآلِيَّةِ الكَوْكَبِيَّة.
دخلنا بوابة حضارة جديدة يُسيِّرها عقل جمعيّ خوارزميّ
إِنَّ المَشْهَدَ الحَضارِيَّ الجَديدَ، بِصُوَرِهِ الذَّكِيَّةِ المُتَعَدِّدَةِ، أَصْبَحَ يُظْهِرُ دَرَجاتٍ أَعْلى في سُرْعَةِ الإِنْجازِ الإِنْسانيِّ، وَدِقَّتِهِ، وَفي تَقارُبِ مُخْرَجاتِ أَنْشِطَتِهِ المُتَنَوِّعَةِ الإِنْتاجِيَّةِ والخَدَمِيَّةِ، خاصَّةً في مَجالاتِ التَّعْليمِ والتَّدْريبِ والصِّحَّةِ والإِعْلامِ والبَحْثِ العِلْميِّ والْإِدارَةِ والتِّجارَةِ والِاسْتِشارَةِ والقانونِ، وَما أَشْبَهَ؛ وَذَلِكَ لِتَشابُهِ عَمَلِيّاتِ الإِنْجازِ التي يَقومُ بِها الذَّكاءُ الاصْطِناعِيُّ والمَرْجِعِيّاتُ المَعْلوماتِيَّةُ والمَعْرِفِيَّةُ التي تَعْتَمِدُ عَلَيْها أَنْظِمَتُهُ المُسْتَخْدَمَةُ، وَهِيَ أَنْظِمَةٌ ذاتِيَّةُ التَّعَلُّمِ في فَضائِها الْإِلِكْترونِيِّ الفَسيحِ...
يَبْقى الْأَفْرادُ القادِرونَ على التَّعامُلِ مَعَها بِمِهْنِيَّةٍ، كَوَسائِلَ مُساعِدَةٍ تَتَطَلَّبُ وَعْيًا مَعْرِفِيًّا وَلَيْسَ مُجَرَّدَ اسْتِخْدامِها كَما هِيَ على عِلّاتِها؛ هُمُ الذينَ يَسْتَطيعونَ بِواسِطَتِها تَعْظيمَ قُدْراتِهِمُ الإِنْتاجِيَّةِ والإِبْداعِيَّةِ ضِمْنَ قُدُراتِ العَقْلِ الجَمْعيِّ الكَوْكَبيِّ الذَّكيِّ، خِلافًا لِلَّذينَ يَقَعُونَ – بِوَعْيٍ مِنْهُمْ أَوْ مِنْ دونِ وَعْيٍ – تَحْتَ طائِلَةِ جَبْرِهِ وإِلْزامِهِ الجَديدِ، وَلا يَتَجاوَزونَ ما يُمْكِنُ أَنْ تَفْرِضَهُ عَلَيْهِمُ التَّحَيُّزاتُ الذَّكِيَّةُ المُحْتَمَلَةُ، وَتَوْجيهاتُ التَّمْييزِ الخَفِيَّةُ، والانْتِقاءُ المُوَجَّهُ، أَيًّا كانَتِ الدَّوافِعُ والمَصالِحُ التي وَراءَها.
لَقَدْ دَخَلْنا بَوّابَةَ حَضارَةٍ جَديدَةٍ يُسَيِّرُها عَقْلٌ جَمْعِيٌّ خَوارِزْمِيٌّ، يُنَظِّمُ حَرَكَةَ مُؤَسَّساتِها الرَّقْمِيَّةِ والذَّكِيَّةِ، حُكومِيَّةً وأَهْلِيَّة... لا يُمْكِنُ لَها، مِنْ دونِهِ، أَنْ تُؤَدِّيَ عَمَلِيّاتِها، أَوْ تَتَّخِذَ قَراراتِها.
(خاص "عروبة 22")

