تتكثف الجهود والمساعي الأوروبية، وتتواتر الاجتماعات من أجل تطويق خطّة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب للسلام بين روسيا وأوكرانيا، والتي تعتبرها العواصم الأوروبية منحازة بالكامل إلى الجانب الروسي. وتضغط الولايات المتّحدة أساساً، باتجاه حمل أوكرانيا على تقديم تنازلات جدية عن نسبة من الأراضي التي تطالب بها روسيا، إضافة إلى الالتزام بعدم الدخول إلى حلف "الناتو"، وذلك مقابل إحلال السلام وتقديم ضمانات لأوكرانيا بعدم التعرّض مستقبلاً لأيّ هجوم روسي.
وترى أطراف أوروبية وأمريكية أنّ اجتماعات العاصمة الألمانية برلين حققت بعض التقدّم، غير أنّه يبدو من الواضح أنّ الرئيس الأوكراني فلوديمير زيلينسكي ليس بإمكانه تقديم مثل هذه التنازلات، وتدعمه في ذلك أطراف أوروبية على رأسها فرنسا وبريطانيا وألمانيا وبولندا. وتترجم هذه المواقف المتباينة والمتناقضة أحياناً بين المعلن والمخفي منها مناخ انعدام الثقة بين إدارة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب وأطراف أوروبية قويّة داخل الاتحاد الأوروبي وخارجه ترى في سياسات ومواقف ترامب تنصّلاً واضحاً من التزامات أمريكا التاريخية تجاه أوروبا.
وما انفكّ الرئيس الأمريكي يعلن تباعاً أنّ مسألة حماية أوروبا تعود أساساً للأوروبيين، وقد تكون التسريبات الصحفية الأخيرة حول انسحاب محتمل للولايات المتّحدة من حلف الناتو في أوروبا سنة 2027، أثارت مخاوف الدول الأوروبية، ما دفع عديد الأطراف داخلها إلى ضرورة التهيّؤ لمواجهة مصيرها دون التعويل على إسناد أمريكي درج عليه العرف الجاري بين الطرفين منذ الحرب العالمية الثانية. وتأتي تصريحات الأمين العام لحلف شمال الأطلسي مارك روته بأن روسيا "قد تشنّ هجوماً على إحدى دول الحلف خلال السنوات الخمس المقبلة"، ليزيد من حدّة هذه المخاوف.
مارك روته أشار في خطابه بالعاصمة الألمانية برلين إلى أنّ "روسيا تُصعّد بالفعل حملتها السرية ضد المجتمعات الأوروبية"، ويجب لذلك أن تكون "مستعدّة لحرب بمستوى الحروب التي تحمّلها الأجداد أو جدود الأجداد". في إشارة واضحة منه إلى الحربين الكونيتين الأولى والثانية، مؤكّداً في كلمته التي أدلى بها في العاصمة الألمانية برلين، أنّ على "الناتو" أن يدرك أنّ "روسيا تعتبرنا الهدف التالي"، ومشيراً إلى أنّ الحرب المحتملة قد تطال "كل منزل ومكان عمل".
وتتوافق هذه التصريحات مع أخرى مماثلة صادرة عن أجهزة بعض الاستخبارات الغربية وتؤكّد على هذه النوايا الروسية، وهو ما ترفضه موسكو وتصفه بـ"الحملة الهستيرية" ضدّها. ويتبيّن من خلال مجمل المواقف والتصريحات أنّ إصرار بعض الأطراف على دقّ طبول الحرب قد لا يكون بالضرورة نتيجة لوجود مؤشّرات فعلية على أنّ روسيا تسعى لفتح جبهة جديدة مع الأوروبيين.
وأنّ هذه السلوكيات التي تدفع عملياً باتّجاه التصعيد مردّها الأساسي الخوف والجزع الذي يخيّم على أوروبا بسبب التغيّر الجذري في مواقف واهتمامات ومصالح الولايات المتّحدة التي أعلنت دون لبس أو مواربة نيتها التركيز على منطقة الشرق الأقصى والمحيط الهادي وبحر الصين. وهي سياسة بدأت ملامحها تظهر قبل وصول الرئيس دونالد ترامب إلى البيت الأبيض، مع وجود متغيّر وحيد وهو اعتبار الصين منافساً وليس عدوّاً كما في السابق.
ويتّجه الرأي إلى أنّ التغيّر في الموقف والسياسة الأمريكية تجاه أوروبا والعالم لن يحول دون الولايات المتّحدة ومساعيها المحمومة من أجل فرض السلام الضروري بين روسيا وأوكرانيا وإن كان ذلك على حساب المصالح الإقليمية لدول أوروبا والمصالح الوطنية القومية لأوكرانيا، لأنّه فيما يبدو السبيل الوحيد لمنع موسكو من الاحتماء الكامل وراء تحالف روسي مع الصين، وكذلك من أجل التمهيد لهذا التحوّل الأمريكي الذي يفترض وجوباً تنقية العلاقات الدولية من شوائب النزاعات والحروب.
ومع تأكّد هذا التوجّه الأمريكي المستقبلي، والذي تضمنته وثيقة الأمن الاستراتيجية الأمريكية المعلنة أخيراً، تكون الصورة الأكثر تعبيراً على هذا الواقع الجديد، تلك التي ظهر فيها الرئيس الأمريكي دونالد ترامب منذ يومين حاملاً لمثال قوس النصر الذي يكاد يوجد في كلّ دولة غربية، بحسب ما أعلن ترامب قد يشير بذلك إلى رمزية التاريخ الغائبة عن حضارة أمريكا ولسان حاله يقول: للأوروبيين التاريخ ولنا المستقبل.
(البيان الإماراتية)

