صحافة

روسيا ومستقبل الأمن الأوروبي

إدريس لكريني

المشاركة
روسيا ومستقبل الأمن الأوروبي

شكلت أوروبا تاريخياً ساحة لحروب عسكرية طاحنة ومدمرة، دفعت إلى البحث عن سبل للتخلص من متاهات الصراعات والنزاعات العسكرية التي كانت كلفتها على أمن واستقرار القارة باهظة على المستويات البشرية والسياسية والاقتصادية والأمنية. ففي عام 1648 وضمن مبادرة دبلوماسية وازنة وغير مسبوقة، تم عقد معاهدة "وستفاليا" كإطار لإرساء نظام جديد داخل القارة الأوروبية، يعزز السلام ويدعم مبدأ سيادة الدول. وفي صيف عام 1919 تم عقد معاهدة "فرساي" التي أنهت بشكل رسمي الحرب العالمية الأولى، وفتحت المجال لتأسيس عصبة الأمم التي فشلت بدورها في منع اندلاع الحرب العالمية الثانية التي استخدم فيها السلاح النووي.

وعلى الرغم من تأسيس هيئة الأمم المتحدة في عام 1945 عشية نهاية هذه الحرب الكارثية، فإن القارة ظلت حلبة للصراع من جديد، على الرغم من المجهودات التي بذلت في سياق الاستفادة من أخطاء عصبة الأمم المتحدة، بعد إرساء مجموعة من المبادئ الدولية كعدم استخدام القوة أو التهديد باستعمالها في العلاقات الدولية، أو منع التدخل في الشؤون الداخلية للدول، حيث خيمت ظروف الحرب الباردة بإشكالاتها المعقّدة على أمن واستقرار القارة لعدة عقود، بعدما اتخذ الصراع طابعاً اقتصادياً وعسكرياً وإعلامياً وأيديولوجياً، وانتقل إلى داخل الأمم المتحدة ليشل أداءها ويؤثر سلباً في مسؤولياتها المتصلة بحفظ السلم والأمن الدوليين.

وفي أواخر الثمانينات من القرن الماضي، تنفّس العالم الصعداء مع انهيار جدار برلين وانتهاء الصراع الأيديولوجي، وتراجع حدّة سباق التسلح. وعلى الرغم من تفكّك الاتحاد السوفييتي، وحلّ "حلف وارسو"، فإن غريمه التاريخي "حلف شمال الأطلسي" الذي يستأثر بمهام الدفاع الجماعي بين أعضائه بموجب المادة الخامسة من الوثيقة التأسيسية للحلف، والتي تنص على أن أي اعتداء يستهدف دولة عضو يمثل اعتداء على كل الدول الأعضاء، ما يستدعي الرد الجماعي، ظلّ قائماً وحاضراً بقوة، وسعى إلى تكييف مهامه مع التحديات الأمنية التي فرضها الواقع الدولي الجديد، لتشمل عدداً من القضايا والملفات ذات الطابع السياسي والاجتماعي.

وفي الوقت الذي كان فيه الحلف يمارس تدخلاته في عدد من الأزمات والقضايا الدولية خارج الفضاء الأوروبي في كل من العراق وأفغانستان وليبيا، كانت روسيا منشغلة بترتيب بيتها الداخلي والتخلص من التداعيات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية لرحيل الاتحاد السوفييتي، وهوما فتح المجال للولايات المتحدة وعدد من البلدان الأوروبية لوضع ترتيبات دولية وإقليمية في غياب الطرف الروسي، وبخاصة مع انضمام عدد من دول أوروبا الشرقية إلى الاتحاد الأوربي وحلف شمال الأطلسي.

ومع تطور الأوضاع العسكرية في أوكرانيا على إثر التدخل العسكري الروسي عام 2022، بدت لغة التصعيد والتوتر واضحة، مع فرض عقوبات أوروبية وأمريكية صارمة على موسكو في سياق الضغط لوقف عملياتها العسكرية داخل التراب الأوكراني. تعيش القارة الأوروبية في الوقت الراهن على إيقاع توتر ملحوظ، مع تباين الرؤى بصدد الحرب الجارية في أوكرانيا، والذي وصل حدّ التهديد باللجوء إلى الخيار النووي، فيما لجأت الكثير من البلدان الأوروبية إلى تعزيز ميزانياتها الدفاعية، فيما انضمت كل من فنلندا والسويد إلى حلف الناتو، ما يبرز وجود حالة من الشك وعدم الثقة بين روسيا والدول الأوروبية.

تتباين الطروحات الروسية والأوربية بشأن الأمن الأوروبي، بين مطالب تدعو إلى إرساء أمن أوروبي استراتيجي مستقل عن الولايات المتحدة، يدعم استقرار القارة ومصالحها، ويقوم على تعزيز الإمكانيات العسكرية خارج نطاق حلف شمال الأطلسي، وموقف آخر يرى في الولايات المتحدة شريكاً استراتيجياً وطرفاً أساسياً لدعم الأمن الأوروبي من خلال المظلة النووية الأمريكية وحضورها الوازن داخل هيئات حلف "الناتو".

وأمام هذه المتغيرات والمواقف المتضاربة، يبدو مستقبل الأمن الأوروبي الذي وصل إلى مرحلة حبلى بالتنافس وعدم الاستقرار، مشوباً بالتحديات والمخاطر، وهو ما يحيل إلى سيناريوهين، الأول، يقوم على بلورة حلّ يضمن ماء وجه أطراف الحرب الروسية - الأوكرانية بضمانات متبادلة، والانكباب على إرساء منظومة أمنية متوازنة تأخذ بعين الاعتبار للمخاوف الروسية ومصالحها وبخاصة، فيما يتعلق بعدم تمدد الحلف بجوارها، أو بإدماجها ضمن هذه المنظومة. أما السيناريو الثاني، فيحيل إلى استمرار الحرب وما قد يرافقها من توتر وتصعيد، واتساع دائرة المواجهة التي يمكن أن تزج بالقارة في متاهات جديدة من الصراعات والحروب.

(الخليج الإماراتية)

يتم التصفح الآن