صحافة

عن غزة ومحنة التهجير

محمد خالد الأزعر

المشاركة
عن غزة ومحنة التهجير

يوم 13 أكتوبر 2023 حين لم يكن الأسبوع الأول من الحرب على قطاع غزة قد اكتمل، وكان الغزيون الذين نزحوا من مناطقهم حذر الموت بفعل القصف العشوائي قلة قليلة تعد بالمئات، ألقى الجيش الإسرائيلي منشورات على سكان القطاع تحت عنوان عريض "لا تعودوا".. كانت تلك الخطوة المبكرة من الدلائل الأولى التي أثارت الشكوك حول تطبيق النية المبيتة منذ عقود لاقتلاع الغزيين وتهجيرهم.. ولم نلبث إلا بعض الوقت حتى تحول الشك إلى يقين بإفصاح كل المتنفذين في تل أبيب تقريباً عن تبنيهم التهجير سياسة عامة يتعين تمريرها بأي ثمن.

خلال سنتي الحرب فقد القطاع من أبنائه نحو 250 ألفاً بين قتيل ومفقود ومصاب، واضطر زهاء 100 ألف إلى الهجرة واللجوء، يمثل هؤلاء الأخيرين قرابة 4% من السكان، ومن المرجح أن هذه نسبة تبدو غير مرضية إطلاقاً. ولعلها محبطة لطموحات الإسرائيليين ومراداتهم التي سخروا لأجلها كل وسائلهم القسرية أساساً والناعمة الطوعية شكلاً، ولا بد أن مشاعر الإحباط تتعمق لديهم أكثر، كلما استذكروا ما ترتب على هذه السياسة جراء جولة الصراع عام 1948 - 1949 التي شهدت لجوء ونزوح ما يقرب من 80% من عموم الفلسطينيين!

وعليه، لا يصح وصف لجوء الغزيين لخارج القطاع بالظاهرة الكاسحة، ومبلغ العلم أن مختلف المعالجات العقلانية لم تستطرد حتى اللحظة إلى هذا المعنى، لكن تناول الإسرائيليين ومقاربتهم لما جرى ويجري بين يديهم من هجرة معاكسة يبدو مغايراً، فبعد أن أكدت البيانات الحكومية ذات الصلة مغادرة ما يزيد على 125 ألف إسرائيلي بلا رجعة أثناء الحرب، ذكر رئيس لجنة الهجرة والاستيعاب في الكنيست منزعجاً: "هذه ليست موجة عابرة وإنما تسونامي من الذين يتركون البلاد". وفي المداولات النيابية، أكد الرجل ولجنته أنهم لا يملكون خطة لمواجهة الخروج بأعداد لا سابقة لها منذ نشأة إسرائيل.

في ضوء تفشي انعكاسات الحرب وتوابعها الأمنية والسياسية والنفسية داخل إسرائيل التي ثبت أنها العامل الأساسي لهذا الـ"تسونامي"، لنا أن نتساءل عما إن كان وربما ما زال حرياً بالمتنفذين هناك إصدار نداءات يستصرخون فيها مواطنيهم بألا يغادروا. مقارنة بغيرها من الكيانات الدولية، تستحوذ إسرائيل على أكبر حزمة من الخطوط الحمراء التي يعد تجاوزها إنذاراً بخطر وجودي في الحال أو الاستقبال.. ويقيناً يشغل هبوط عدد المهاجرين إليها مقابل صعود عدد مغادريها، ولو بمعدلات طفيفة، مركز القلب في هذه الحزمة.

لم يحدث أن واجهت نخب السياسة والحكم الإسرائيلية هذه المعادلة بشقيها الخطيرين معاً، على غرار ما يحدث منذ أكتوبر 2023. هذا قولهم بأفواههم وبإحصاءاتهم. ونحسب أن استعصام الغزيين بأرضهم ومساقط رؤوسهم رغم الحمم التي صبت عليهم، مستأصلة كل مظاهر عمرانهم بحيثية مروعة، يؤذي هذه النخب ويقض مضاجعهم، وربما يؤذيهم ويغضبهم أيضاً أن يتوازى هذا التمترس الفلسطيني. ويتزامن مع جنوح جماعات من الإسرائيليين للهجرة والمغادرة، رغم الفارق المذهل في موازين القوى الصلبة الذي يهيئ لهم بيئة أمنية لا يحلم بها الفلسطينيون جميعهم، وليس أهل غزة فقط.

لا يلام الغزيون القليلون الذين آثروا اللجوء على خيارهم، كونهم فعلوا ذلك مكرهين مستجيبين لنوازع الفطرة الإنسانية التي تبحث عن النجاة وصيانة الحياة، حين يكون البديل هو الإبادة والموت المحقق أو شبه المحقق، والأهم أن الشق الأعظم منهم يجاهرون بأشواقهم للعودة، واستئناف حيواتهم ولو على أنقاض بيوتهم فور أن يستطيعوا لذلك سبيلاً. لا تنبعث هذه الأشواق فقط من الصلة العضوية التاريخية الطبيعية بالوطن والرغبة العارمة في لم الشمل معه عاجلاً غير آجل، وإنما تتعمد أيضاً بأصداء الحمولة السلبية للتجارب الفلسطينية العامة مع اللجوء. وببعض التأمل تنجلي أمامنا الفوارق بين سياق لجوء الغزيين، بل والفلسطينيين أجمعين، وبين سياق خروج الإسرائيليين.

بهذا الخصوص ينبغي أن نلحظ مثلاً وبإيجاز شديد كيف يفتقر الغزيون تماماً لوطن غير وطنهم وجنسية غير جنسيتهم، كما يفتقرون لتاريخ وإرث مجتمعي غير ما صنعوه وعرفوه أجيالاً متطاولة، بحيث إنهم خارج هذا الوطن أغراب ولاجئون حرفياً، فيما يحظى أكثر من مليون و700 ألف إسرائيلي بجنسيات أوطان وجوازات سفر وذاكرات جمعية أخرى. ومن المقدر أن عناصر هذه الكتلة الواسعة هم المرشحون أكثر من غيرهم في الدولة لإغراء الخروج في أوقات الأخطار الطارئة، على اعتبار أن تدبر شؤونهم وانغماسهم في العوالم المستقبلة لهم أمور ميسورة، وأن هذا الخروج، طبقاً لبعض الرؤى، ما هو إلا عملية عودة وانتقال سلس لأوطان تخصهم، لا تنطوي على مهانات اللجوء ومراراته.

وفي كل حال، يبقى حل الدولتين الضمانة المثلى حتى الآن لمعالجة القلق وعدم الاطمئنان والحراك السكاني المزمن والمؤلم على الجانبين الفلسطيني والإسرائيلي.

(البيان الإماراتية)
?

برأيك، ما هو العامل الأكثر تأثيرًا في تردي الواقع العربي؟





الإجابة على السؤال

يتم التصفح الآن