صحافة

خرافة "حصر السلاح بيد الدولة"!

يحيى الكبيسي

المشاركة
خرافة

في حزيران 2014 اتخذ الفاعل السياسي الشيعي، ومن خلفه إيران ، وقاسم سليماني تحديداً، قراراً باعلان تشكيل قوة عسكرية عقائدية/ شيعية موازية للقوات الرسمية وليست جزءًا منها، على غرار الحرس الثوري الايراني (كانت هذه المليشيات تعمل على الأرض بشكل غير معلن قبل ذلك بمدة ليست بالقصيرة) مهمتها الأساسية ضمان احتكار الفاعل السياسي الشيعي للسلطة والدولة في العراق. وذلك من خلال إعلان نوري المالكي، عن تشكيل "الحشد الشعبي" بعد يوم واحد من دخول تنظيم الدولة/ داعش إلى الموصل، وقبل إعلان المرجع الشيعي السيد علي السيستاني فتواه للجهاد الكفائي.

وهذا ما يفسر التجاهل الواضح، آنذاك، لتوجيهات السيد السيستاني المتكررة بأن فتواه "إنما كانت للانخراط في القوات الأمنية الرسمية وليس تشكيل مليشيات مسلحة خارج إطار القانون"، وأن على الجهات ذات العلاقة "أن تمنع المظاهر المسلحة غير القانونية وأن تبادر إلى تنظيم عملية التطوع وتعلن عن ضوابط محددة لمن تحتاج إليهم القوات المسلحة والأجهزة الأمنية الأخرى"! والتأكيد على "عدم السماح بوجود مجموعات مسلحة خارج الأطر القانونية تحت أي صفة أو عنوان"!

هكذا ظلت هذه المليشيات تعمل بدون غطاء قانوني، وتموّل بالمال والسلاح لمدة سنتين ونصف، إلى أن شُرع قانون هيئة الحشد الشعبي مع نهاية تشرين الثاني/ نوفمبر 2016. وكل ذلك جرى في سياق تواطؤ أمريكي فاضح؛ فقد نقلت بلومبيرغ عن اثنين من كبار المسؤولين في الإدارة الأمريكية أن الجنود الأمريكيين والميليشيات الشيعية، تحديداً كتائب حزب الله، ( الفصيل المصنف أمريكياً منذ تموز/ يوليو 2009 على القائمة الأمريكية المتعلقة بالإرهاب) يقيمان جنباً إلى جنب في قاعدة "تقدم" العسكرية في الأنبار. كما نُقل عن مسؤول كبير آخر، أن قادة بعض الميليشيات المتشددة كانوا يجلسون في إحاطة أمريكية بشأن العمليات العسكرية!

لكن استفحال ظاهرة المليشيات، وتكريس وضعها كدولة موازية، أثار حفيظة بعض الفاعلين السياسيين الشيعة في العراق، وحاولوا تقنين هذه الظاهرة بعد أن فشل القانون في ذلك؛ فقد أصدر رئيسا مجلس الوزراء الأسبقان: حيدر العبادي وعادل عبد المهدي أمرين ديوانيين في العام 2017 و 2019 (بوصف كليهما قائداً عاماً للقوات المسلحة) للتخفيف من تغول هذه المليشيات، لكنهما فشلا في ذلك، وكان واضحاً أن إيران نفسها تقف خلف هذا الفشل! أما المحاولة الثالثة فجاءت في عهد رئيس مجلس الوزراء السابق مصطفى الكاظمي، لكن الأمور كانت قد تجاوزت ذلك؛ حيث قامت تلك المليشيات بقصف منزله بالصواريخ رغم صفته كقائد عام للقوات المسلحة!

بعد انتخابات مجلس النواب الأخيرة، التي جرت في تشرين الثاني/ نوفمبر 2025، وحصول مرشحي هذه المليشيات على ما يزيد عن 90 مقعداً، أصبحت الدولة في العراق أمام تداخل غير مسبوق بين هذه المليشيات وبنية الدولة وسلطاتها، وهو ما يجعل هذه المليشيات أكثر قوة وتأثيراً مما كانت عليه قبل ذلك! اليوم ومع التطورات في منطقة الشرق الأوسط بعد السابع من تشرين الأول/أكتوبر، واضطرار إيران الى إدارة هزيمتها بطريقة براغماتية (على الأقل إلى نهاية ولاية إدارة ترامب)، وجد وكلاء ايران وحلفاؤها في العراق أنفسهم بحاجة إلى مخرج من المأزق الذي وضعوا أنفسهم فيه، حين استهدفوا القوات الأمريكية في سوريا والأردن، وأرسلوا بعض طائراتهم المسيّرة الى اسرائيل .

ولم يعد القرار الإيراني المتأخر بإبعاد هذه المليشيات عن "وحدة الساحات" كافياً بالنسبة للولايات المتحدة، لاسيما بعد التصعيد الأمريكي لتهديداته تجاه العراق؛ ففي تموز/يوليو 2025 هددت المتحدثة باسم وزاة الخارجية الأمريكية باتخاذ إجراءات «ضد المؤسسات المالية التي تمول الحشد الشعبي"، ثم قررت الولايات المتحدة في 17 أيلول/ سبتمبر 2025 رفع تصنيف أربع ميليشيات عاملة في الحشد الشعبي، من كونها حسب التصنيف "منظمة إرهابية عالمية مصنّفة بشكل خاص" (SDGT) إلى "منظمة إرهابية أجنبية" (FTO) والميليشيات المعنية بهذا القرار كانت حركة النجباء، وكتائب سيد الشهداء، وحركة أنصار الله الأوفياء، وكتائب الإمام علي، وقبلهم وضعت كتائب حزب الله تحت هذا التصنيف. وفي آب/أغسطس 2025 أكد وزير الخارجية الأمريكي ماركو روبيو في اتصال هاتفي مع رئيس الوزراء العراقي محمد شياع السوداني، على المخاوف الأمريكية الجدية من مشروع قانون هيئة الحشد الشعبي، مشدداً على أن أي تشريع من هذا القبيل من شأنه إضفاء الطابع المؤسسي على النفوذ الإيراني والجماعات الإرهابية المسلحة التي تعمل على تقويض الحكم في للعراق. لينتهي الأمر بتحذيرات أقرب الى التهديد بمنع مشاركة أي من هذه المليشيات في الحكومة الجديدة.

ولم يقتصر الأمر على التهديدات، فقد قرر مجلس النواب الأمريكي في كانون الأول/ ديسمبر الحالي فرض قيود كبيرة على التمويل المخصص للقوات العسكرية والأمنية العراقية، وصلت إلى تجميد 75 في المئة من ذلك التمويل، واشترط المجلس ثلاثة شروط لاستعادة ذلك التمويل، وهي تقليص القدرة العملياتية للمليشيات المرتبطة بإيران عبر تنفيذ عمليات نزع سلاح موثوقة، وتسريح عناصرها بشكل معلن يضمن خفض تأثيرها الأمني والعسكري، وتعزيز سلطة تعزيز سلطة رئيس الوزراء بصفته القائد العام للقوات المسلحة، بما يضع حداً لازدواجية القرار الأمني، وأخيراً فتح تحقيقات ومحاسبة للعناصر المنتمية للفصائل أو القوات الأمنية ممن يعملون خارج سلسلة القيادة الرسمية، أو المتورطين في هجمات على أهداف أمريكية أو عراقية، أو المنخرطين في أنشطة غير قانونية.

وهنا يبرز سؤالان جوهريان؛ هل نحن أمام موقف أمريكي نهائي بشأن الميليشيات العراقية/ الحشد الشعبي، أم نحن أمام ورقة ضغط تستخدم ضد إيران، وبالتالي قابلة للمساومة في سياق تطورات المفاوضات الأمريكية الإيرانية؟ والثاني هل التطورات الأخيرة بإعلان بعض المليشيات العراقية قبولها بحصر السلاح بيد الدولة هو موقف حقيقي، أم مجرد مناورة ايرانية جديدة؟

إن المراجعة التاريخية لمواقف الولايات المتحدة تجاه المليشيات العراقية يكشف أنها كانت مواقف انتهازية بحتة، وأن الولايات المتحدة ليس لديها موقف مبدئي من تلك المليشيات، بدليل أنها تعاونت معها، وسكتت عنها على مدى سنوات، وبالتالي فإن موقفها منها يرتبط ارتباطاً وثيقاً بموقفها من إيران ، وبالتالي نحن أمام ورقة للتفاوض مع إيران ليس أكثر، والولايات المتحدة مستعدة للتفاوض على هذه الورقة في سياق مفاوضاتها مع الإيرانيين للوصول الى صفقة مشتركة!

كما أن المعرفة الدقيقة بهذه المليشيات، يكشف أن المناورة الأخيرة المتعلقة بالشعار العبثي حول "حصر السلاح بيد الدولة" لا قيمة لها دون تفكيك هذه المليشيات، عبر الخطوات العملية المنطقية وهي أولاً: حل الحشد الشعبي بقانون يصدر عن مجلس النواب، وثانياً قطع أي تمويل رسمي عنه، وثالثاً نزع سلاح الفصائل من خلال عملية شفافة تخضع لمراقبة دولية، ورابعاً دمج الأفراد المؤهلين في هذه المليشيات في المؤسسة العسكرية والأمنية كأفراد وليس كمجموعات، وإحالة غير المؤهلين منهم إلى وظائف مدنية، وأخيراً إنفاذ قانون الأحزاب السياسية الذي يمنع أي حزب لديه جناح مسلح من العمل السياسي (وقد تواطأ القضاء العراقي ومفوضية الانتخابات، قبل هذا، على عدم إنفاذ هذه المادة).

ومن غير هذا المسار لن يكون شعار "حصر السلاح بيد الدولة" سوى خرافة أخرى جديدة تضاف إلى مجموعة الخرافات الجوفاء الأخرى التي تلوكها الطبقة السياسية في العراق!

(القدس العربي)
?

برأيك، ما هو العامل الأكثر تأثيرًا في تردي الواقع العربي؟





الإجابة على السؤال

يتم التصفح الآن